Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 1, Ayat: 6-6)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : الهدايةُ في الأصل : الدلالة بلطف ، ولذلك تُستعمل في الخير ، وقوله : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصَّافات : 23 ] على التهكم ، والفعل منه هَدَى بالفتح ، وأصله أن يُعدى باللام ، أو " إلى " ، فَعْومل هنا معاملة : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [ الأعرَاف : 155 ] . والصراط لغة : الطريق ، مشتق من سَرَط الطعامَ إذا ابتعله ، فكأنها تبتلع السابلةَ أي المارَّة به ، وَقُلِبَتْ السين صاداً لتطابق الطاء في الإطباق ، وقد تُشَمُّ زاياً لقرب المَخرج ، و { المستقيم } : الذي لا عوج فيه ، والمراد به طريق الحق المُوصَّلة إلى الله . يقول الحقّ جلّ جلاله : مُعلماً لعباده كيف يطلبونه ، وما ينبغي لهم أن يطلبوا ، أي : قُولوا { اهدنا } أي : أَرشِدْنا إلى الطريق المستقيم ، الموصلة إلى حضرة النعيم ، والطريقُ المستقيم هو السيرُ على الشريعة المحمدية في الظاهر ، والتبرِّي من الحول والقوة في الباطن ، أو تقول : هو أن يكون ظاهرُك شريعةً وباطنك حقيقة ، ظاهرك عبودية وباطنك حرية ، الفرق على ظاهرك موجود والجمع في باطنك مشهود ، وفي الحكم : " متى جَعَلَك في الظاهر ممتثلاً لأمره وفي الباطن مستسلماً لقهره ، فقد أعظم المِنَّة عليك " . فالصراط المستقيم الذي أمرَنَا الحقُّ بطلبه هو : الجمع بين الشريعة والحقيقة ، والمفهوم من قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفَاتِحَة : 5 ] ، ولذلك وصلَه به ، فكأن الحق - سبحانه - يقول : " يا عبادي احمدوني ومجدوني وأفردوني بالقصد وخُصُّوني بالعبادة ، وكونوا في ظاهركم مشتغلين بعبادتي ، وفي باطنكم مستعينين بحولي وقوتي ، أو كونوا في ظاهركم متأدبين بخدمتي ، وفي باطنكم مشاهدين لقدرتي وعظمة ربوبيتي " . وقال سيّدنا عليّ - كَرَّمَ الله وجهه - : الصراط المستقيم هنا القرآن . وقال جابر رضي الله عنه : هو الإسلام يعني الحنيفية السمحاء وقال سهل بن عبد الله : هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم . يعني اتباعَ ما جاء به . وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة ، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلطه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدِّيقين . فإن قلت : إذا كان العبدُ ذاهباً على هذا المنهاج المستقيم ، فكيف يطلب ما هو حاصل ؟ فالجواب : أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل ، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل ، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام ، الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل ، على طريق الصوفية ، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام ، والعمل الباطن بمقام الإيمان ، وأهلُ الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل ، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان ، والترقي إلى ما لا نهاية له من كشوفات العرفان { وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَليمٌ } [ يُوسُف : 76 ] . وقال الشيخ أبو العباس المرس رضي الله عنه : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد فيما ليس بحاصل ، ثم قال : عمومُ المؤمنين يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي : بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد لما ليس بحاصل ، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتَهُم درجات الصالحين ، والصالحون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } معناه : نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء ، والشهداءُ يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين ، والصديقون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي : بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حَصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب ، والقطبُ يقول : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنه حصل له رتبة القطبانية ، وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه . هـ . وقال بعضهم : الهدايةُ إما للعين وإما للأثرِ الدالَّ على العين ، ولا نهاية للأولى ، قلت : فالأولى لأهل الشهود والعِيان ، والثانية لأهل الدليل والبرهان ، فالهداية للعين هي الدلالةُ على الله . والهداية للأثر هي الدلالة على العمل ، " مَنْ دَلَّكَ على الله فقد نصحك ، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك " . وإنما كانت الأولى لا نهاية لها لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له . بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين ، إن كان الدالُّ عارفاً بالطريق . قال البيضاوي : وهداية الله تتنوَّعُ أنواعاً لا يحصيها عد { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحصُوهَآ } [ إبراهيم : 34 ] لكنها تنحصر في أجناس مترتبة : الأول : إِفاضَةُ الُقُوَى التي بها يتمكنُ المرء من الاهتداء إلى مصالحه ، كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة . الثاني : نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه الإشارة بقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البَلَد : 10 ] ، وقال : { فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فُصّلَت : 17 ] . الثالث : الهدايةُ بإرسال الرسل وإنزال الكُتُب ، وإياها عني بقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبيَاء : 73 ] ، وقوله : { إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [ الإسرَاء : 9 ] . الرابع : أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويُرِيَهُمْ الأشياءَ كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة . وهذا يختص بِنَيْله الأنبياءُ والأولياءُ ، وإياه عني بقوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] ، { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العَنكبوت : 69 ] . فالمطلوب : إما زيادةُ ما مُنحوه من الهدى والثباتُ عليه ، أو حصولُ المراتب المترتبة عليه ، فإذا قال العارفُ الواصل عَنَى بقوله : أرشدنا طريق السير فيك ، لتمحُوَ عنا ظلماتِ أحوالنا ، وتُمِيطَ غواشِيَ أبداننا ، لنستضيء بنور قدسك فنراكَ بنورك . هـ . قلت : قوله الرابع … الخ ، في عبارته قَلَقٌ واختصار ، والصواب أن يقول : الرابعُ - أن يكشف عن قلوبهم الظُّلَمَ والأغيار ، ويُشرق عليها الأنوار والأسرار ، ويُريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام ، وباستعمال الفكرة في عظمةِ الملك العلاَّم ، حتى تستولي أنوارُ المعاني على حِسِّ الأواني ، ثم يقول : وهذا قسم يختصّ بنيله الأنبياء والأولياء . وقوله : فإذا قال العارف … الخ ، الصواب أن يقول : فإذا قاله المريد السائر لأن الواصل انمحت عنه الظلماتُ كلها والغواشي وسائرُ الأكدار لأن الله تعالى غطَّى وصفه بوصفه ونعته بنعته ، فلم يَبْقَ له وصفٌ ظُلماني . وأيضاً قوله : [ أرشدنا إلى طريق السير ] إنما يناسب السائر دون الواصل لأن الواصل ما بَقِيَ له إلا الترقي ، ولا يُسمى في اصطلاح الصوفية [ السير ] إلا قبلَ الوصول . والله تعالى أعلم .