Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 3-4)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { إن ربكم } الذي يستحق العبادة وحده هو { اللهُ } الذي أظهر الكائنات من العدم إلى الوجود ، وبه رد على من أنكر النبوة ، كأنه يقول : إنما أدعوكم إلى عبادة الله الذي خلق الأشياء ، فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين ؟ ثم فصَّل ذلك فقال : { الذي خلق السماوات والأرض } التي هي أصول الكائنات ، { في } مقدار { ستةِ أيام } من أيام الدنيا ، ولم يكن حينئذٍ ليل ولا نهار ، والجمهور : أن ابتداء الخلق يوم الأحد ، وفي حديث مسلم : يوم السبت ، وأنه خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك . { ثم استوى على العرش } استواء يليق به ، كاستواء الملك على سريره ليُدير أمر مملكته ، ولذلك رتب عليه : { يُدَبِّر الأمرَ } ، وقد تقدم الكلام عليه في الأعراف . قال البيضاوي : يُدبر أمر الكائنات على ما تقتضيه حكمته ، وسبقت به كلمته ، بتحريك أفلاكها ، وتهيئ أسبابها ، والتدبير : النظر في عواقب الأمور لتجيء محمودة العاقبة . هـ . { ما من شفيع } تُقبل شفاعته { إلا من بعد إِذْنِه } له في الشفاعة ، وهو تقرير لعظمته وعزة جلاله ، ورد على من يزعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له ، كالأنبياء والعلماء الأتقياء . { ذلكم الله } أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية هو { الله ربكم } لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك ، { فاعبدوه } : أفردوه بالعبادة { أفلا تذكرون } أي : تتفكرون أدنى تفكر ، فتعرفون أنه المستحق للربوبية والعبادة ، لا ما تعبدون من الأصنام . { إليه مرجعكم } بالبعث { جميعاً } فيجازيكم على أعمالكم ، ويعاقبكم على شرككم ، { وعد الله حقاً } . مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله : { إليه مرجعكم } وعدٌ من الله . { إنه يبدأ الخلق } بإظهاره في الدنيا { ثم يُعيده } بعد إهلاكه في الآخرة . { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، تعليل للعودة وهي البعثة ، وقوله : { بالقسط } أي : بالعدل بأن يعدل في جزائهم ، فلا يظلم مثقال ذرة ، أو بعدلهم وقيامهم على العمل في أمورهم ، أو بإيمانهم لأنه العدل القويم ، كما أن الشرك ظلم عظيم . وهو الأوجه لمقابلة قوله : { والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم } بسبب كفرهم وشركهم الذي هو الظلم العظيم لكنه غيَّر النظم للمبالغة في استحقاقهم العذاب والتنْبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة ، وأما العقاب فإنما هو الواقع بالعرض ، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ، ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة ، فإنه إنما ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشوم أفعالهم . والآية كالدليل لقوله : { إليه مرجعكم جميعاً } ، فإنَّه لمَّا كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم ، كان مرجع الجميع إليه لا محالة ، ويؤيده قراءة من قرأ : " أنه يبدأ " بالفتح ، أي : لأنه ، ويجوز أن يكون منصوباً بما نصب " وعد الله " . قاله البيضاوي . الإشارة : تقدم بعض إشارة هذه الآية في الأعراف ، وقال الورتجبي هنا : جعل العرش مرآة تجلي قدسه ومأوى أرواح أحبابه لقوله : { ثم استوى … } الآية ، ثم قال : ثم دعاهم إلى عبادته بعد معرفته بقوله : { فاعبدوه } . وقال القشيري : { ذلكم الله ربكم } تعريف ، وقوله : { فاعبدوه } تكليف ، فحصولُ التعريف بتحقيقه ، والوصولُ إلى ما وَرَدَ به التكليف بتوفيقه . هـ . وقال في قوله : { إليه مرجعكم جميعاً } : الرجوع يقتضي ابتداء ، والأرواح قبل حصولها في الأشباح كان لها في مواطن التسبيح والتقديس إقامة ، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند مُحبيِّه وذويه ، وأنشدوا : @ أَيا قَادماً من سَفرةِ الهَجرِ مَرْحَباً أَنَا ذاك لا أَنساكَ مَا هَبَّت الصَّبا . هـ . @@ وفي الإحياء : كل من نسي الله أنساه لا محالة نفسه ، ونزل إلى رتبة البهائم ، وترك الترقي إلى أُفق الملأ الأعلى ، وخان في الأمانة التي أودعها له تعالى ، وأنعم بها عليه ، وكان كافراً لنعمته ، ومتعرضاً لنقمته فإن البهيمة تتخلص بالموت ، وأما هذا فعنده أمانة سترجعُ لا محالة إلى مُودعها ، فإليه مرجع الأمانة ومصيرها ، وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة ، وإنما هبطت إلى هذا القالب الفاني وغربت فيه ، وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها ، وتعود إلى بارئها وخالقها ، إما مظلمة مُنكسة ، وإما زاهرة مشرقة ، والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية ، والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة إذ المرجع ومصير الكل إليه ، إلا أنها ناكسة رؤوسها عن جهة أعلى عليين ، إلى جهة أسفل سافلين ، ولذلك قال تعالى : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ السجدة : 12 ] فبيَّن أنهم عند ربهم منكسون منحوسون ، قد انقلبت وجوههم إلى اقفيتهم ، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل ، وذلك حكم الله تعالى فيمن حَرمَهُ توفيقه ، ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول في منازل الجُهال . هـ . قلت : ظاهر كلامه : أن الروح لا ترجع إلى وطنها وتتصل بحضرة ربها إلا بعد خراب هذا البدن ، والحق إنها ترجع لأصلها ، وتتصل بحضرة ربها مع قيام هذا البدن إذا كمل تطهيرها وتمت تصفيتها من بقايا الحس ، وانقطع عنها علائق هذا العالم الجسماني ، فتتصل حينئذٍ بالعالم الروحاني ، مع قيام العالم الجسماني ، كما هو مقرر عند أهل التحقيق ، والله تعالى أعلم . ثم ذكر حكمة إيجاد النيريْن ، فقال : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً } .