Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 84-86)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : " مفسدين " : حال مؤكده لمعنى عاملها ، وهو : " لا تعثوا " . وفائدة ذكره : إخراج ما يُقصد به الإصلاح ، كما فعله الخضر عليه السلام . يقول الحق جل جلاله : { و } أرسلنا { إلى مَدْيَنَ أخاهم شعيباً } ، أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أو أهل مدين ، وهي بلدهُ ، فسميت باسمه ، { قال يا قوم اعبدوا الله } وحده { ما لكم من إله غيره ولا تَنقُصوا المكيالَ والميزان } ، وكانوا مطففين . أمرهم أولاً بالتوحيد فإنه رأس الأمر ، ثم نهاهم عما اعتادوا من : البخس المنافي للعدل ، المخل بحكمة المعاوضة ، ثم قال لهم : { إني اراكم بخيرٍ } بسعة كرخص الأسعار ، وكثرة الأرزاق ، فينبغي أن تشكروا عليها ، وتتعففوا بها عن البخس ، لا أن تنقضوا الناس حقوقهم ، أو بسعة ونعمة ، فلا تزيلوها بما أنتم عليه فإن من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، { وإني أخاف عليكم عذابَ يوم محيط } يوم القيامة ، فإنه محيط بكل ظالم ، أو عذاب الاستئصال في الدنيا ، ووصف اليوم بالإحاطة ، وهي صفة العذاب لاشتماله عليه . { ويا قوم أوفوا الميكالَ والميزان بالقسط } بالعدل من غير زيادة ولا نقصان . صرح بالأمر بالاستيفاء بعد النهي عن ضده مبالغةً ، وتنبيهاً على أنهم لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف ، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بالزيادة ، حيث لا يتأتى دونها ، وقد تكون الزيادة محظورة ، ولذلك أمرهم بالعدل في قوله : بالقسط ، بلا زيادة ولا نقصان . { ولا تبخسوا الناسَ أشياءهم } لا تنقصوهم حقهم ، وهو تعميم بعد تخصيص ، فإنه أعم من أن يكون في الميزان والمكيال وفي غيره ، وكذا قوله : { ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين } فإن العثو وهو الفساد يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد . وقيل : المراد بالبخس : المكس ، كأخذ العشور في المعاملات ، والعثو : السرقة وقطع الطريق والغارة ، وأكد بقوله : { مفسدين } وفائدته : إخراج ما يقصد به الإصلاح ، كما فعل الخضر عليه السلام ، وقيل : معناه : مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم . قاله البيضاوي . { بقيةُ اللَّهِ } أي : ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن الحرام ، { خيرٌ لكم } مما تجمعون بالتطفيف ، { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي الاكتفاء بالحلال عن الحرام . أو إن كنتم مؤمنين فالبقية خير لكم ، فإن خيريتها تظهر باعتبار الثواب والنجاة من العذاب ، وذلك مشروط بالإيمان ، أو : إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم . وقيل : البقية : الطاعة ، كقوله { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ } [ الكهف : 46 ] . وقرئ : " تقية الله " بالتاء المثناة ، وهي تقواه التي تكف عن المعاصي ، { وما أنا عليكم بحفيظٍ } أحفظ عليكم أعمالكم ، وأجازيكم عليها ، إنما أنا نذير وناصح مبلغ ، وقد أعذرت حين أنذرت . أو : أحفظكم عن القبائح وأمنعكم منها . أو : لست بحافظ عليكم نعم الله إن سُلبت عنكم بسوء صنيعكم . والله تعالى أعلم . الإشارة : كما أمر الحق تعالى بالوفاء في الموازين أمر بالوفاء في الأعمال والأحوال والمقامات . ولذلك قيل للجنيد في النوم : أفضل ما يُتقرب به إلى الله عمل خفي ، بميزان وفي ، فالوفاء في الأعمال : إتقانها في الظاهر ، باستيفاء شروطها وآدابها ، وإخلاصها في الباطن مع حضور القلب فيها . والوفاء في الأحوال : ألا تخرج عن قواعد الشريعة ، بأن لا تكون محرمة ولا مكروهة ، وأن يقصد بها موت النفوس وحياة الأرواح ، والوفاء في المقام : ألا ينتقل عن مقام إلى غيره حتى يتحقق بالمقام الذي أنزل فيه . وفيه خلاف بين الصوفية : هل يصح الانتقال عن مقام قبل التحقق به ، ثم يحققه في المقام الذي بعده ، أم لا ؟ . والمقامات التي ينزل فيها المريد : التوبة ، الخوف ، الرجاءُ ، والورع ، والزهد ، والتوكل ، والصبر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة بالفناء ثم البقاء ، أو الإسلام ، ثم الإيمان ، ثم الإحسان . فلا ينتقل من مقام إلى ما بعده حتى يحقق المقام الذي هو فيه ، ذوقاً وحالاً . وقيل : يجوز أن ينتقل إلى ما بعده إذا كان ذا قريحة فتحقق له ما قبله . والله تعالى أعلم . وطريق الشاذلية مختصرة ، تطوي عن المريد هذه المقامات ، فينزل في أول قدم في مقام الإحسان ، شعر أم لا ، ثم يحصل الفناء ثم البقاء ، إن وجد شيخاً كاملاً تربى على يد شيخ كامل ، وإلا فلا . وقول الجنيد رضي الله عنه : عمل خفي ، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام : خفاء عوام الصالحين ، وهو : إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء . وخفاء المريدين ، وهو : الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم ، ولو كانوا بين أظهرهم ، فإخفاؤهم قلبي لا قالبي . وخفاء العارفين الواصلين ، وهو : الإخفاء عن رؤية النفس ، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم ، في حال أعمالهم ، فليس لهم عن نفوسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار . والله تعالى أعلم . ثم ذكر ما أجابه به قومه ، فقال : { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ } .