Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 109-110)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : نوحى : نعت لرجال ، وكذا من أهل القرى : نعت ثان ، وحتى : غاية لمحذوف ، أي : وما أرسلنا إلا رجلاً يوحى إليهم فأوذوا مثلك ، ودام عليهم ، حتى إذا استيأسوا جاءهم نصرنا . يقول الحق جل جلاله : { وما أرسلنا من قبلك } يا محمد { إلا رجالاً } بشراً لا ملائكة ، وهو رد لقولهم : { لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } [ فصلت : 14 ] ، وقيل : معناه : نفي استنباء النساء . وصفة أولئك الرجال : { يوحَى إليهم } كما أوحي إليك ، فتميزوا بالوحي عن غيرهم ، وهم { من أهل القُرى } . وهم المدن والأمصار ، والمداشر الكبار لأنهم أحلم وأعلم ، بخلاف أهل العمود فإنهم أهل جفاء وجهالة . قال الحسن : لم يبعث الله نبياً من أهل البادية ، ولا من النساء ولا من الجن . قال ابن عطية : والتَّبَدِّي مكروه إلا في الفتن ، وحين يُفَرُّ بالدين ، لحديث : " يُوشِكُ أن يَكونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِم غَنما يَتْبَعُ بها سَعَفَ الجِبَالِ … " الحديث . وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع . هـ . قلت : والفتنة تتنوع بتنوع المقامات ففتنة أهل الظاهر : تعذر إقامة الشريعة لكثرة الهرج والفتن ، وفتنة أهل الباطن : تعذر جمع القلب بالله لكثرة الحس ، وتعرض الشواغل والعلائق . فمن وجد ذلك في الحواضر فلينتقل إلى البوادي ، إن وجد من يعينه على الدين . والغالب أن الحواضر في هذا الزمان يغلب فيها العوائد والشهوات ، وتعتري فيها الشواغل والشواغب ، بخلاف البادية . فإذا كان عليه الصلاة والسلام أذن لسَلَمة : خوف فتنة الظاهر ، فأولى خوف فتنة الباطن لأنه إذا فسد القلب فسد الجسد كله . ثم قال ابن عطية : وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تعرب في الإسلام " وقال : " مَن بَدَا جَفَا " وعن معاذ بن جبل أنه قال : الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الإِنْسَانِ ، كذِئبِ الغَنَمِ يَأخُذُ الشَّاةَ القَاصية فإِيَّاكُمْ والشِّعاب ، وَعَليكم بالمَسَاجِدِ ، والجَمَاعَاتِ ، والعَامةَ . ثم قال : ويعترض هذا ببدو يعقوب ، وينفصل عن ذلك بوجهين : أحدهما : أن ذلك البدو لم يكن في أهل العمود ، بل بَتَقَرِّ في منازل وربوع ، والثاني : إنما جعله بدواً بالإضافة إلى مصر ، كما هي بنات الحواضر الصغار بَدْوٌ بالإضافة إلى الحواضر الكبار . هـ . قلت : فالتعرب المنهي عنه هو اعتزال الرجل وحده في جبل أو شِعْبٍ ، وإما إن تقرر في جماعة يقيمون الدين ، ويجتمعون عليه ، فليس بتعرب ولا بدو . ويدل عليه جواب ابن عطية الأول عن يعقوب عليه السلام . والحاصل : أن أهل القلوب بفتشون على مصالح قلوبهم ، فأينما وجدوها فهي حاضرتهم . وقد ظهر في البوادي أكابر من الأولياء ، ربما لم يظهروا في الحواضر . والله تعالى أعلم . ثم قال تعالى : { أفلم يسيروا } أي : كفار مكة ، { في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم } من المكذبين لرسلهم : كيف هلكوا وتركوا آثارهم يشاهدونها خراباً دارسة ، فيحذروا تكذيبك ، ليؤمنوا ويتأهبوا للدار الآخرة { ولَدَار الآخِرَةِ } أي : ولدار الحياة الآخرة { خير للذين اتقوا } الشرك والمعاصي ، { أفلا تعقلون } ، وتستعملون عقولكم لتعلموا أنها خير . أو : أفلا يعقلون الذين يسيرون في الأرض ليعلموا أن الدنيا فانية ، والدار الآخرة خير لأنها باقية . فإن أبيتم وكذبتم نبيكم فقد كذب من قبلكم رسلهم ، وآذوهم ، وتأخر نصرهم ، { حتى إذا استيأس الرسل } من النصر ، أو من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر ، وتماديهم من غير وازع ، { وظنوا } أي : تيقنوا { أنهم قد كذبوا } أي : أن قومهم كذبوهم فيئسوا من إيمانهم . أو : ظنوا أن من آمن بهم قد كذبوهم لطول البلاء وتأخر النصر . وأما قراءة كُذِبُوا بالتخفيف فمعناه : وظنوا أنهم قد كذب عليهم في وعد النصر … وأنكرت عائشة رضي الله عنها هذه الرواية ، وقالت : معاذ الله لم تكن الرسل تظن بربها ذلك . كما في البخاري . وقد يجاب بأن ذلك كانت خواطر وهواجس من وسواس النفس ، يمر ولا يثبت ، وهو من طبع البشر ، لا يدخل تحت التكليف . وسماه ظناً مبالغة في طلب المراقبة ، كما تقدم في قوله : { ولقد همت به وهم بها } . وقال ابن جزي ، على هذه القراءة : الضميران يعودان على المرسل إليهم ، أي : ظن الأتباع أن الرسل قد كذبوا عليهم في دعوى الرسالة ، أو في مجيء النصر لما اشتد عليهم البلاء ، وتأخر عنهم النصر . فلما يئسوا { جاءهم نصرنا فنُجَّي من نشاء } نجاته : وهو : النبي والمؤمنون . وإنما لم يعينهم للدلالة على أنهم الذين يستأهلون نجاتهم بالمشيئة القديمة ، لا يشاركهم فيها غيرهم ، { ولا يُردُّ بأسُنا عن القوم المجرمين } إذا نزل بهم . وفيه بيان المستثنين بالمشيئة ، كأنه قال : ولا نشاء نجاة المجرمين . الإشارة : قد وجد كثير من الأولياء بالمدن والحواضر ، وكثير منهم في القرى والمداشر . وفضل الله يؤتيه من يشاء ، لا يختص بمكان ولا زمان ، غير أن جلهم جمعوا بين علم المدن وتفرغ البوادي ، يعني : جمعوا بين شريعة المدن وحقيقة البوادي لأن أهل المدن شريعتهم قوية ، وحقيقتهم ضعيفة . والبوادي بالعكس لكثرة العلائق في المدن وخفتها في البوادي ، والحقيقة تحتاج إلى تفرغ كبير وتفكر كثير ، والله تعالى أعلم . وقوله تعالى : { وظنوا أنهم قد كذبوا } بالتخفيف ، معناه : أنهم لم يقفوا مع ظاهر الوعد لسعة علمهم لأن ذلك الوعد قد يكون في علم الغيب متوقفاً على شروط خفية لا يعلمها ذلك النبي أو الولي ، ليتحقق انفراده تعالى بالعلم الحقيقي ، والقهرية الغالبة . فلذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم . وقال الورتجبي : إنهم استغرقوا في قلْزُوم الأزلية ، وغابوا تحت بحار الديمومية ، ولم يروا الحق من كمال استغراقهم في الحق . فلما لم يروه ناداهم لسان غيْره قهر القدم : أين أنتم ؟ غبتم عنه وعن الحقيقة ، فتطُلع أنوار الحقيقة عليهم ، ويأخذ لطفها عن شبكات امتحان القهر . وهذا دأب الحق مع الأنبياء والأولياء حتى لا يسكنوا إلى ما وجدوا منه ، بل يفنوا به عن كل ماله إليهم . هـ . قال المحشي الفاسي : وحاصل ما أشار إليه : أن قراءة التخفيف تشير إلى أخذهم عن الوقوف مع الوعد ، والسكون إليه ، غيبةً في الحق عن مقتضى وعده ، لا تكذيباً لوعده ، بل ذلك احوالٌ غالبة آخذة عن الصفة ، غيبةً في الموصوف . وهذا حال الصوفي كما يعرف ذلك أهله . وهو صحيح في نفسه ولكنه بعيد عن مرمى الآية فإن صاحب الغيبة لا يوصف بظن خلاف الوعد ، وإن كان غائباً عنه . وأقرب منه ما ذكره الترمذي الحكيم : من أن ذلك كان لظن فقد شرط في الموعود أوجب عدَم القطع لوقوع الوعد . والله أعلم . وقد قال في الحِكم : " لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود ، وإن تعين زمنه " . يعني أنه قد يتخلف لفقد شرط كما في قضية الجرْو الذي تخلف جبريل من أجله . أو لعدم تحقيق الوقت لأن تعيينه كان من قبل أنفسهم من غير وحي ، فلما تأخر ظنوا ذلك بأنفسهم . والله تعالى أعلم . هـ . والحاصل : أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لما تأخر عنهم النصر هجس في أنفسهم تخلف الوعد خوفاً أن يكون متوقفاً على شرط لم يعلموه ، أو جعلوا له وقتاً فهموه من أمارات ، فلما تأخر عنه ظنوا أنه قد تخلف . وأما قضية الجرو الذي أشار إليهم : فكان جبريل عليه السلام وعد نبينا صلى الله عليه وسلم أن يأتيه في وقت مخصوص ، فدخل جرو البيت ، فلم ينزل في ذلك الوقت ، فلما نزل بعد ذلك ، قال : " إنما تَخلَّفْنَا عن الوقت لأَنَّ الملائكة لا تَدخلُ بَيْتاً فيه كَلْبٌ " كما في الصحيح . ثم قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } .