Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 4-6)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : إذ قال : معمول لاذكر ، أو بدل من أحسن القصص إن جعل مفعولاً ، بدل اشتمال ، ويا أبت : أصله : يا أبي ، عوض من الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة ، ولذلك قلبت في الوقف هاء ، في قراءة ابن كثير وأبي عمر ويعقوب . وإنما أعاد العامل في " رأيتهم " لطول الكلام ، وجمع الشمس والقمر والكواكب جمع العقلاء لوصفهم بصفاتهم . يقول الحق جل جلاله : { إذ قال يوسفُ لأَبيهِ } يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم : { يا أبتِ إني رأيتُ } في النوم { أحداً عَشَر كوكباً والشمسَ والقَمَرَ رأيتُهم لي ساجدين } . وقد ذكر البيضاوي حديثاً في تفسير هذه الكواكب فانظره . قيل : إن يوسف عليه السلام كان نائماً في حجر أبيه ، فنظر فيه ، وقال في نفسه : أترى هذا الوجه أحسن ام الشمس أم القمر ؟ فإذا بيوسف قد انتبه من نومه ، وقال : { يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً … } الخ ، فلما قص الرؤيا على أبيه بكى ، فقال يوسف : لم تبكي يا أبتي ؟ قال : يا بني لم يسجد مخلوق لمخلوق إلا عند المحنة ، والبلاء ، ألا ترى الملائكة لما أسجدهم الله لآدم ، كيف ابتلي بالخروج من الجنة ؟ ثم قال له : يا بني ، الشمس والقمر أنا وخالتك وكانت أمه قد ماتت والإحدى عشر كوكباً إخوتك . هـ . { قال يا بنيَّ } ، وهو تصغير ابن صغر للشفقة أو لصغر السن ، وكان ابن ثنتي عشرة سنة ، { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً } فيحتالوا لإهلاكك حيلة . فَهِمَ يعقوبُ عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ، ويفوقه على إخوته ، فخاف عليه حسدهم . ومن خاف من شيء سلط عليه . والرؤيا تختص بالنوم ، والرؤية ، بالتاء بالبصر . قال البيضاوي : وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، المصادفة منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ . انظر تمامه فيه . وأخرج الحاكم في المستدرك ، والطبراني في الأوسط ، عن ابن عمر قال : لقي عمر عليَّاً رضي الله عنهما فقال : يا أبا الحسن ، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ، ومنها ما يكذب ، قال : نعم . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلي نوماً إلا عرج بروحه إلى السماء . فالتي لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدقُ ، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذبُ " هـ . فمنها ما تكون واضحة المعنى لا تحتاج إلى تعبير ، ومنها ما تكون خفية تحتاج إلى تعبير . والمعبر يحتاج إلى علم وفراسة وزيادة إلهام ، فعلم التعبير علم مستقل ، وقد أعطى الله منه ليوسف عليه السلام حظاً وافراً . ولما قال يعقوب لابنه : { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً } قال : يا أبت ، الأنبياء لا يكيدون ، قال له : { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } ظاهر العداوة لأجل ما فعل بـآدم وحواء ، فلا يألوا جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم ، حتى يحملهم على الكيد . قيل : لم يسمع كلام يوسف في رؤياه إلا خالته أم شمعون فقالت لإخوته : التعب عليكم ، والإقبال على يوسف . فحركهم ذلك حتى فعلوا ما فعلوا . وقيل : أخبرت بذلك ولدها شمعون ، فأخبر شمعون إخوته ، فخلوا به وقالوا له : إنك لم تكذب قط . فأخبرنا بما رأيت في نومك ، فأبى ، فأقسموا عليه ، فأخبرهم . فوقعوا فيما فعلوا به . ثم قال له : { وكذلك } أي : وكما اجتَباك لهذه الرؤية الدالة على شرف وعز وكمال نفس ، { يجتبيك ربُّك } للنبوة والملك ، أو لأمور عظام ، { ويُعلِّمك } أي : هو يعلمك { من تأويل الأحاديث } من تعبير الرؤيا لأنها أحاديث المَلك إن كانت صادقة ، وأحاديث الشيطان إن كانت كاذبة . أو يعلمك من تأويل غوامض علوم كتب الله ، وسنن الأنبياء وحكم الحكماء . { ويُتمُّ نعمتَه عليك } بالنبوة ، أو بأن يجمع لك بين نعمة الدنيا ، ونعمة الآخرة ، { وعلى آل يعقوب } يريد : سائر بنيه . ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب ، { كما أتمها على أبويك من قبلُ } من قبلك ، أو من قبل هذا الوقت . فأتمها على إبراهيم بالرسالة والخلة والإنجاء من النار ، وإسحاق بالرسالة والإنقاذ من الذبح ، وهم : { إبراهيمَ وإسحاقَ } ، فهما عطف بيان لأبويك { إن ربك عليمٌ } بمن يستحق الاجتباء ، { حكيم } لا يخلو فعله من حكمة ، نعمة كانت أو نقمة . الإشارة : البداية مجلاة النهاية ، يوسف عليه السلام نزلت له أعلام النهاية في أول البداية . وكذلك كل من سبق له شيء من العناية ، لا بد تظهر أعلامه في أول البداية " من أشرقت بدايته أشرقت نهايته " . من كانت بالله بدايته كانت إليه نهايته . وأوصاف النهاية تأتي على ضد أوصاف البداية فكمال العز في النهاية لا يأتي إلا بعد كمال الذل في البداية . وتأمل قول الشاعر : @ تَذَلَّلَ لِمَنْ تَهوَى لِتَكسِبَ عِزَّةً فَكَم عِزَّةٍ قَدْ نَالَها المرْء بِالذُّلِّ @@ وتأمل قضية سيدنا يوسف عليه السلام ما نال العز والملك حتى تحقق بالذل ، والملك وكمال الغنى في النهاية لا يأتي إلا بعد كمال الفقر في البداية ، وكمال العلم لا يأتي إلا بعد إظهار كمال الجهل ، وكمال القوة لا يأتي إلا بعد كمال الضعف … وهكذا جعل الله تعالى بحكمته الأشياء كامنة في أضدادها " تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه " . فالاجتباء يكون بعد الابتلاء ، وإتمام النعم يكون بعد تقديم النقم ، وذلك لتكون أحلى وأشهى ، فيعرف قدرها ويتحقق منه شكرها ، وهذا السر في تقديم أهوال يوم القيامة على دخول الجنة ليقع نعيمها في النفس كل موقع . ولا فرق بين جنة الزخارف ، وجنة المعارف . حُفت الجنة بالمكاره ، وحُفت النار بالشهوات . والله تعالى أعلم . ثم قال تعالى : { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } .