Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 84-87)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : يا أسفي ، ويا ويلتي ، ويا حسرتي ، مما عوض فيه الألف عن ياء المتكلم . والأسف : أشد الحزن . وقيل : شدة الحسرة . و كظيم : إما بمعنى مفعول ، كقوله : وهو مكظوم أي : فهو مملوء غيظاً على أولاده ، ممسك له في قلبه ، تقول : كظم السقاء إذا شد على ملئِه . أو بمعنى فاعل كقوله : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } [ آل عمران : 134 ] من كظم البعير جِرَّتَهُ إذا ردها في جوفه . و تفتأ : من النواقص اللازم للنفي ، وحذفه هنا لعدم الإلباس لأنه لو كان مثبتاً لأكد باللام والنون . والحرض : المريض المشرف على الهلاك ، وهو في الأصل مصدر ، ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع . والبث : أشد الحزن . يقول الحق جل جلاله : { وتولّى } يعقوب عن أولاده ، أي : أعرض { عنهم } لما لم يصدقهم ، كراهةً إما صادف منهم ، ورجع إلى تأسفه { وقال يا أسَفَا } أي : يا شدة حزني { على يوسف } . وإنما تأسف على يوسف دون أخويه لأن محبته كانت أشد لإفراط محبته فيه ، ولأن مصيبته سبقت عليهما . { وابيضَّتْ عيناه } من كثرة البكاء { من الحُزن } ، كأَنَّ العَبْرَةَ محقت سوادها ، وقيل : ضعف بصره ، وقيل : عمي . وقد رُوي أنه : " حَزِنَ يعقُوب حُزْن سبعين ثَكْلَى ، وأُعطِي أَجر مائَة شَهيدٍ ، وما ساءَ ظَنّه بالله قَطّ " . وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع . ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف ، فإنه قلَّ من يملك نفسه عند الشدائد ، وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " القلْبُ يَحْزَنُ ، والعَيْنُ تَدمَعُ ، ولا نَقُولُ إلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا ، وإنَّا على فِراقِكَ يا إبراهِيمُ لَمَحْزُونون " . { فهو كظيم } أي : مملوء غيظاً على أولاده لما فعلوا . أو كاظم غيظه ، ماسك له ، لم يظهر منه شيئاً ، ولم يَشْكُ لأحد . { قالوا تاللهِ تَفْتَؤا } : لا تزال { تذكرُ يوسفَ } تفجعاً عليه ، { حتى تكون حَرَضاً } : مشرفاً على الهلاك ، { أو تكون من الهالكين } : من الميتين . { قال إنما أشكو بَثّي } أي : شدة همي { وحزني } الذي لا صبر عليه ، { إلى الله } لا إلى أحد منكم ولا غيركم فَخَلّوني وشِكَايتي ، فلست مِمَّن يجزع ويَضْجَر فيستحق التعنيف ، وإنما أشكو إلى الله ، ولا تعنيف فيه لأن فيه إظهار الفقر ، والعجر بين يديه ، وهو محمود . { وأعلمُ من الله ما لا تعلمون } أي : أعلم من لطف الله ورأفته ورحمته ، ما يوجب حسن ظني وقوة رجائي ، وأنه لا يخيب دعائي ، ما لا تعلمون . أو : وأعلم من طريق الوحي من حياة يوسف ما لا تعلمون لأنه رأى ملك الموت فأخبره بحياته ، كما تقدم . وقيل : علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى تخر له إخوته سُجّداً . { يا بَني اذهبوا } إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم ، { فتحسسُوا من يوسفَ وأخيهِ } أي : تعرفوا من خبرهما ، وتفحَّصوا عن حالهما . والتحسس : طلب الشيء بالحواس . وإنما لم يذكر الولد الثالث لأنه بقي هناك اختياراً . وفي ذكر يوسف دليل على أنه كان عالماً بحياته . { ولا تيأسوا من رَّوْح الله } : لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه ، أو من رحمته ، وقرئ بضم الراء ، أي : من رحمته التي يحيي بها العباد ، أي : ولا تيأسوا من حي معه روح الله فكل من بقي روحه يرْجى ، أي : ويوسف عندي ، فمن معه روح الله فلا تيأسوا من رجوعه . { إنه } أي : الشأن { لا ييأسُ من رَّوْح الله إلا القومُ الكافرون } بالله وصفاته لأن العارف لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال . وإنما جعل اليأس من صفة الكافر لأن سببه تكذيبٌ بالربوبية ، أو جهل بصفة الله وقدرته ، والجهل بالصفة جهل بالموصوف ، فالإياس من رحمة الله كفر . وأما حديث الرجل الذي قال : إذا متُّ فاحرقوني ، ثم اذْروني في البحر والبر في يوم رائح ، فلئِنِ قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من الناس ، حسبما في الصحيح ، فليس فيه اليأس ولا تعجيز القدرة ، لكن لما غلبه الخوف المفرط لم يتأمل ولم بضبط حاله إما لحقه من الخوف وغمره من الدهش ، دون عقد ولا إصرار على نفي الرحمة واليأس منها . ويدل على ذلك قوله : لما قال له الرب تعالى ـ : ما حملك على هذا ؟ قال : مخافتك ، فغفر له . ولم يقل اليأس من رحمتك . انظر المحشي الفاسي . الإشارة : لم يتأسف يعقوب عليه السلام على فقد صورة يوسف الحسية ، إنما تأسف على فقد ما كان يشاهد فيه من جمال الحق وبهائه ، في تجلي يوسف وحسن طلعته البهية ، وفي ذلك يقول ابن الفارض : @ عَيْني لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظُرُ وسِوَاكمُ فِي خَاطِري لا يَخطرُ @@ فلما فقد ذلك التجلي الجمالي حزن عليه ، وإلا فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أولى بالغنى بالله عما سواه . فإذا حصل للقلب الغنى بالله لم يتأسف على شيء ، ولم يحزن على شيء لأنه حاز كل شيء ، ولم يفته شيء . " ماذا فقد من وجده ، وما الذي وجد من فقده " . ولله در القائل : @ أَنَا الفَقِيرُ إِليْكُمُ والْغَنِيُّ بِكُمُ وَلَيْس لِي بَعدَكُمُ حِرْصٌ عَلى أَحدِ @@ وهذا أمر محقق ، مذوق عند العارفين أهل الغنى بالله . وقوله : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } : فيه رفع الهمة عن الخلق ، والاكتفاء بالملك الحق ، وعدم الشكوى فيما ينزل إلى الخلق … وهو ركن من أركان طريق التصوف ، بل هو عين التصوف . وبالله التوفيق . ثم ذهبوا إلى مصر كما أمرهم أبوهم ، قال تعالى : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ } .