Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 17-18)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : جُفاء : حال . والحسنى : مبتدأ ، وللذين : خبر مقدم . والذين لم يستجيبوا : مبتدأ ولو أن : خبر ، أو للذين : متعلق بيضرب ، والحسنى : نعت لمصدر محذوف ، والذين : معطوف على الذين الأولى ، أي : يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى وللذين لم يستجيبوا ، ثم استانف قوله : لو أن … إلخ . يقول الحق جل جلاله : { أنزل من السماء } أي : السحاب ، أو ناحية السماء ، { ماءً } مطراً { فسالتْ } به { أودية } : أنهار ، جمع وادٍ ، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة ، فاتسع واستعمل للماء الجاري فيه . { بقَدَرها } أي : بقَدَر صغرها وكبرها ، كل يسيل على قدره ، أو بقدر ما قسم في قسمة الله تعالى ، وعلم أنه نافع غير ضار ، { فاحتمل السيلُ زَبَداً } أي : رفعه على وجه الماء ، وهو ما يحمله السيْل من غذاء ونحوه ، أو ما يطفو على الماء من غليانه ، { رابياً } : عالياً على وجه الماء ، { ومما تُوقدون عليه في النار } من الذهب وفضة ، وحديد ورصاص ونحاس وغيره ، { ابتغاءً } أي : لطلب { حليةٍ } كالذهب والفضة ، { أو متاع } كالحديد والنحاس يصنع منه ما يتمتع به من الأواني وآلات الحرب والحرث . والمقصود بذلك : بيان منافعها ، فكل واحد منهما له { زَبَدٌ مثله } أي : مثل زبد الماء ، وهو خبثه الذي تخرجه النار عند سبكه . { كذلك يَضْرِِبُ اللَّهُ الحقَّ والباطل } فمثل الحق وهو العلم بالله وبأحكامه كمثل الأمطار الغزيرة ، ومثل القلوب التي سكن فيها ، وجرت حِكَمُه على ألسنة أهلها كالأودية والأنهار والخلجان ، كلٌّ يحمل منه على قدره ، وسعة صدره ، ومثل الباطل الذي دمغه وذهب به كالزبد وخبث الحديد والنحاس ، أو الذهب والفضة . وسيأتي في الإشارة تكميله إن شاء الله . ورُوِي مثل هذا عن ابن عباس . وإنكار ابن عطية له جمود ، وتَذَكرْ حديث البخاري : " مثل ما بعثني الله به من الهدى … " الحديث ، فإنه يشهد لذلك التأويل . وتقدم له بنفسه في قوله : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ } [ يوسف : 39 ] ما يشير إلى تفسير أهل الإشارة والرموز . وراجع ما تقدم لنا في خطبة الكتاب يظهر لك الحق والصواب . قال البيضاوي : مُثِّلَ الحقُّ في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء ، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة ، فتنفع به أنواع المنافع ، ويمكن في الأرض ، فيثبت بعضه في منابعه ، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار ، وبالفِلِزِّ الذي ينتفع به في صَوْغ الحلي ، واتخاذ الأمتعة المختلفة ، ويدوم ذلك مدة متطاولة . والباطلُ ، في قلة نفعه وسرعة ذهابه ، بزبدهما ، وبيَّن ذلك بقوله : { فأما الزَّبدُ فيذهب جُفَاءً } ، أي : مَرْمياً به ، من جفاه : رمى به وأبعده ، أي : يرمى به السيل والفلز المذاب . هـ . { وأما ما ينفع الناس } كالماء ، وخالص الذهب أو الحديد ، { فيمكثُ في الأرض } لينتفع به أهلها . { كذلك يضرب اللهُ الأمثالَ } لإيضاح المشكلات المعنوية ، بالمحسوسات المرئية . { للذين استجابوا لربهم } بالإيمان والطاعة ، { الحسنى } أي : المثوبة الحسنى ، أو الجنة . { والذين لم يستجيبوا له } من الكفرة { لو أنَّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به } من هول ذلك المطلع . أو : يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى ، والذين لم يستجيبوا له . ثم بيَّن مثال غير المستجيبين بقوله : { لو أن لهم … } إلخ . { أولئك لهم سُوءُ الحساب } أقبحه وأشده ، وهو أن يناقش فيه ، بأن يحاسبَ العبد على كل ذنب ، ولا يغفر منه شيء ، { ومأواهم } : مرجعهم { جهنمُ وبئس المهادُ } الفراش والمستقر ، والمخصوص محذوف ، أي : هذا . الإشارة : قد اشتملت الآية على ثلاثة أمثلة : مثال للعلم النافع ، ومثال للعمل الخالص ، وللحال الصافي . فمثَّل الحقُّ تعالى العلم النافع بالمطر النازل من السماء ، فإنه تحيا به الأرض ، وتجري به الأودية والعيون والآبار ، ويحبس في الخلجان والقدور لنفع الناس ، وتتطهر به الأرض من الخبث لأنه ترمى به السيول ، فيذهب جفاء ، كذلك العلم النافع تحيا به النفوس بعد الموت بالجهل والشك ، وتحيا به الأرواح بعد موتها بالغفلة والحجاب ، وتمتلئ به القلوب على قدر وسعها وسعتها ، وعلى قدر ما قُسم لهم من علم اليقين ، أو عين اليقين ، أو حق اليقين ، وتتطهر به النفوس من البدع وسائر المعاصي . ومثَّل العمل الخالص الذي تَصَفَّى من الرياء والعجب وسائر العلل ، بالحديد المصفى من خبثه لتصنع منه السيوف والآلات ، أو النحاس المصفى لتصنع منه الأواني ، وغيرها مما ينفع به الناس . ومثَّل الحال الصافي من العلل بالذهب المصفى أو الفضة ، إذا صفيت وذهب خبثها ليصنع بهما الحلي والحلل ليتزين بها أهلها ، فأشار إلى المثال الأول وهو ا لعلم بقوله : { أنزل من السماء ماء } إلخ . وأشار إلى الحال بقوله : { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية } ، وأشار إلى العمل بقوله : { أو متاع زبد مثله } . وقدَّم الحال لشرفه ، ومثَّله بالذهب والفضة لزيادة الرغبة فيه لأنه ثمرة العمل ، ومرجعه إلى الوجدان والأذواق ، وهو عزيز لا يجده إلا المقربون . والحاصل : أن المراتب أربعة : العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام . وإنما لم يضرب الحق تعالى مثلاً للمقام لأن النزول فيه لا يكون إلا بعد التصفية ، فليس فيه علة ، يحتاج إلى التصفية منها . فمقامات اليقين كلها يجري فيها العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام . فالتوبة مثلاً : يتعلق العلم بمعرفة حقيقتها وفضليتها ، ثم يسعى في العمل بالمجاهدة والرياضة حتى يذهب زبده وخبثه ، حتى يذوق حلاوة الاستقامة مع بقية الخوف من السقوط ، وهذا هو الحال ، ثم تطمئن النفس ، وترسخ التوبة النصوح ، وهذا هو المقام . وكذلك الصبر ، يتعلق به العلم أولاً ثم يسعى في مرارة استعماله حتى يذوق حلاوة الشدة والفاقة ثم يرسخ فيه ، وهكذا يجري في المقامات كلها … وهي اثنا عشر مقاماً : التوبة ، والخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة ، وهي : بروج شمس المعرفة ، وقمر التوحيد . وكذلك معرفة الشهود والعيان : يتعلق العلم أولاً بأسرار التوحيد ، ثم يعمل في خرق عوائد نفسه حتى تموت ، فيشرق عليها أنوار التوحيد ، غير أنها تظهر وتخفى ، ثم يصير الشهود مقاماً ، رسوخاً وتمكيناً . وقد أشار الحكم إلى بعض هذا فقال : " حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال ، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال " . وكل واحد من الثلاثة يحتاج إلى تصفية حتى يذهب زبده وخبثه فتصفية العلم بالإخلاص والتحقيق ، فيذهب عنه قصد الرئاسة والجاه ، أو التوصل إلى الدنيا ، ويذهب به الشكوك والأوهام فهذا زبده . وتصفية العمل بالإخلاص في أوله ، والإتقان والحضور في وسطه ، والكتمان في آخره ، فيذهب عنه الرياء والعجب به ، والتوصل به إلى حفظ نفساني . وتصفية الحال بصحة القصد وإفراد الوجهة ، وإذا هاج عليه الوارد ملك نفسه وأمسكها ، فيذهب به قصد الظهور ، وطلب المراتب الدنيوية والكرامات الحسية ، التي هي من حظ النفس وتشتيت القلب ، إن لم يفرد وجهته لله ، وانحلال عزمه وخمود نوره ، إن لم يمسك نفسه عند هواجم الحال . فهذا زبد الحال الذي يذهب عنه بمجاهدة النفس ، ويمكث في أرض القلوب صفاء اليقين والمعرفة وخالص العمل في مقام العبودية . وبالله التوفيق . ثم ذكر حال من عرف هذا العلم النازل وحال من أنكره فقال : { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ … }