Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 13, Ayat: 19-24)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : أولئك … الخ : جملة خبر الموصولات ، إن رفعت بالابتداء ، وإن جُعلت صفاتٍ لأُولي الألباب : فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات . وجنات : بدل من عُقبى الدار . ومن صلُح : عطف على الواو بفصل المفعول ، وسلام عليكم : محكي بحال محذوفة ، أي : قائلين سلام عليكم ، وحذْفُ الحال إذا كان قولاً كثيرٌ مطرد . يقول الحق جل جلاله : { أفمن يعلم انما أنزِلَ إليك من ربك } هو { الحقُّ } فيستجيب له ، وينقاد له { كَمَنْ هو أعمى } عمى القلب ، لا يستجيب ولا يستبصر ؟ أنكر الحق جل جلاله على من اشتبه عليه الحق من الباطل ، بعدما ضرب المثل ، فإن الأمور المعنوية ، إذا ضرب لها الأمثال المحسوسة ، صارت في غاية الوضوح لا تخفى إلاَّ على الخفاشة ، الذين انطمس نور قلوبهم بالكفر أو المعاصي . ولذلك قال : { إنما يتذكر أولو الألباب } ذوو العقول الصافية والقلوب المنورة ، التي تطهرت من كدر العوائد والشهوات ، ولم تركن إلى المألوفات والمحسوسات . ثم وصفهم بقوله : { الذين يُوفون بعهد الله } ما عقدوه على نفوسهم من معرفة عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية ، حين قالوا : { بلى } . { ولا ينقُضُون الميثاق } ما أوثقوه على نفوسهم ، وتحملوه من المواثيق التي بينهم وبين الله ، وبينهم وبين عباد الله . وهو تعميم بعد تخصيص تأكيداً على الوفاء بالعهود . { والذين يَصِلُونَ ما أمر الله به أن يُوصَلَ } من الرحم ، وموالاة المؤمنين ، وحُضور مجالس الصالحين ، والعلماء العاملين ، والاقتداء بقولهم والاهتداء بهديهم . { ويَخْشَون ربهم } : غضبه ، وعذابه ، أو إبعاده وطرده ، { ويخافون سوءَ الحساب } : مناقشته ، فيحاسبون أنفسهم قبل ان يُحاسبوا . { والذين صَبرُوا } على مشاق الطاعة وترك المخالفة ، أو على ما تكرهه النفوس ، ويخالفه الهوى . فعلوا ذلك { ابتِغَاءَ وَجهِ ربهم } طلباً لرضاه ، أو لرؤية وجهه وشهود ذاته ، لا فخراً ورياء ، وطلباً لحظ نفساني . { وأقاموا الصلاة } المفروضة ، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها ، وحضور السر فيها ، { وأنفقوا مما رزقناهم } من الأموال فرضاً ونفلاً ، { سِراً وعلانيةً } إن تحقق الإخلاص ، وإلا تعيَّن الإسرار . أو سراً لمن لا يعرف بالمال ، وجهراً لمن يعرف به لئلا يُتهم ، أو ليُقتدى به . { ويدرءُونَ بالحسنةِ السيئَةِ } أي : يدفعون الخصلةَ السيئة بالخصلة الحسنة ، فيجازون الإساءة بالإحسان امتثالاً لقوله تعالى : { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ } [ المؤمنون " 96 ] ، أو : يدفعون الشرك بقول : " لا إله إلا الله " ، أو يفعلون الحسنات فيدرؤون بها السيئات ، كقوله { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] . قيل : نزلت في الأنصار . وهي عامة . ثم ذكر جزاءهم ، فقال : { أولئك لهم عُقْبَى الدَّارِ } أي : عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلُها . وهي : الجنة التي فسَّرها بقوله : { جناتُ عَدنٍ } أي : إقامة ، { يدخُلونها } مخلدين فيها . والعدْن : الإقامة ، وقيل : هي بطنان الجنة ، أي : مداخلها لا ربضُها ، فيدخلونها { ومن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } أي : يَلْحَقُ بهم مَنْ صلح من أهلهم ، وإن لم يبلغوا في العمل مبلغهم ، بتعاً لهم وتعظمياً لشأنهم ، أو بشفاعتهم لهم . وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة ، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقرب بعضهم من بعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أُنسهم لكن يقع التفاوت في الدرجات والنعيم والقرب ، على قدر اجتهادهم في التحقق بتلك الصفات ، والدؤوب عليها . والتقييد بالصلاح يدل على أن مجرد الانتساب لا ينفع من غير عمل . { والملائكةُ يدخلون عليهم من كل بابٍ } من أبواب المنازل ، أو من أبواب الفتوح والتحف ، قائلين : { سلامٌ عليكم } بشارة بدوام السلامة ، هذا { بما صبرتم } ، أو سلامة لكم بسبب صبركم . { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار } التي سكنوها ورحلوا عنها دارهم هذه . الإشارة : أفمن تَصَفَّتْ مرآة قلبه من الأكدار والأغيار ، حتى أبصرت أمطار العلوم والأسرار النازلة من سماء الملكوت على النبي المختار ، فتضلع منها حتى امتلأ منها قلبه وسره ، ونبع بأنهار العلوم لسانه وفكره ، كمن هو أعمى القلب والبصيرة ، فلم يرفع بذلك رأساً ؟ إنما ينتفع بتلك العلوم أولو القلوب الصافية التي ذهب خبثها ، فصفت علومها وأعمالها وأحوالها من زبد المساوئ والعيوب ، الذين دخلوا تحت تربية المشايخ ، فأوفوا بعهودهم ، وواصلوهم ، وخافوا ربهم أن يبعدهم من حضرته ، أو يناقشهم الحساب فحاسبوا أنفسهم على الأنفاس والأوقات ، وصبروا على دوام المجاهدات ، حتى أفضوا إلى فضاء المشاهدات ، وأقاموا صلاة القلوب وهي العكوف في حضرة الغيوب وأنفقوا مما رزقهم من سعة العلوم ومخازن الفهوم ، ويقابلون الإساءة بالإحسان لأنهم أهل مقام الاحسان . أولئك لهم عقبى الدار وهي العكوف في حضرة الكريم الغفار ، تدخل على أبواب قلوبهم المواهبُ والأسرار ، تقول بلسان الحال : سلام عليكم بما صبرتم في مجاهدتكم ، فنعم عقبى الدار . ثمَّ شغله بضدهم فقال : { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … }