Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 28-29)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : الموصول : بدل ممن أناب ، أو خبر عن مضمر ، أي : هم . والموصول الثاني بدل ثانٍ ، أو مبتدأ ، وجملة طوبى : خبر ، وهي فُعْلى ، من الطيب ، كبشرى من البشارة ، قلبت ياؤها واواً لضم ما قبلها ، ومعناها : أصبت خيراً وطيباً . وقيل : شجرة في الجنة . وسوغ الابتداء بها : ما فيها من معنى الدعاء . يقول الحق جل جلاله : في وصف من سبقت له الهداية واتصفت بالإنابة : هم { الذين آمنوا } بالله وبرسوله إيماناً تمكَّن من قلوبهم ، واطمأنت إليه نفوسُهم فإذا حركتهم الخواطر والهواجم ، أو فتن الزمان وأهواله { تطمئن قلوبُهم بذِكرِ اللهِ } ، وترتاح بذكر الله أُنساً به ، واعتماداً عليه ورجاء منه ، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته ، أو بذكر آلائه ، ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته ، أو بكلامه القرآن ، الذي هو أقوى المعجزات . قاله البيضاوي . وقال في القوت : معنى تطمئن بذكر الله : تهش وتستأنس به . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرَّحمن الفاسي بعد كلام : والحاصل أن المراد من الطمأنينة : السكون إلى المذكور ، والأنس به . ووجود الرَّوْحِ والفرح والانشراح ، والغنى به . هـ . قال تعالى : { ألا بذِكْرِ الله تطمئن القلوبُ } لا بغيره ، فلا تسكن إلا إليه ، ولا تعتمد إلا عليه فإن سكنت إلى غيره ذهب نورها ، وعظم قلقها . { الذين آمنوا وعملوا الصالحات طُوبَى لهم } أي : لهم عيش طيب وحياة طيبة . أو الجنة ، أو شجرة فيها ، { وحُسنُ مآبٍ } أي : مرجع يرجعون إليه بعد الموت . الإشارة : الطمأنينة على قسمين : طمأنينة إيمان وطمأنينة شهود وعيان . قوم اطمأنوا إلى غائب موجود ، وقوم إلى آخر مشهود . قوم اطمأنوا بوجود الله من طريق الإيمان على نعت الدليل والبرهان ، وقوم اطمأنوا بشهود الله من طريق العيان على نعت الذوق والوجدان . وهذه ثمرة الإكثار من ذكر الله . قال الشيخ الشاذلي رضي الله عنه : حقيقة الذكر : ما اطمأن بمعناه القلب ، وتجلّى في حقائق سحاب أنوار سمائه الرب . هـ . وقال الورتجبي : إنْ كان الإيمان من حيث الاعتقاد ، فطمأنينة القلب بالذكر ، وإن كان من حيث المشاهدة فطمأنينة القلوب بالله وكشف وجوده . هـ . فطمأنينة الإيمان لأهل التفكر والاعتبار من عامة أهل اليمين . وطمأنينة العيان لأهل الشهود والاستبصار من خاصة المقربين . أهل الأولى يستدلون بالأشياء على الله ، وأهل الثانية يستدلون بالله على الأشياء فلا يرون إلا مظهر الأشياء . وشتان بين من يستدل به أو يستدل عليه المستدل به عرف الحق لأهله ، وأثبت الأمر من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه ، ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه ؟ ! . كما في الحِكَم . وقال في المناجاة : " إلهي كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ ! . أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك ؟ ! متى غِبْتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ ! . وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : " كيف يُعرف بالمعارف من به عُرفت المعارف ؟ ! أم كيف يُعرف بشيء مَنْ سَبَقَ وجودُه كلَّ شيء ؟ أي : وظهر بكل شيء " . وفي ذلك يقول الشاعر : @ عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي عَلَيْكَ شَهَادَةً وَأَنْتَ الَّذي أَشْهَدْتَهُ كُلَّ شَاهِدِ @@ وقال آخر : @ لَقَدْ ظَهَرْتُ فَمَا تَخْفَى على أَحَدٍ إِلاَّ عَلى أَكْمَهٍ لا يُبْصِرُ القَمَرَا لَكِنْ بَطنْتَ بِما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبِاً وكَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ بالْعِزَّةِ اسْتَتَرَا @@ وأهل طمأنينة الإيمان على قسمين باعتبار القرب والبُعد : فمنهم من يطمئن بوجود الحق على نعت القرب والأنس ، وهم أهل المراقبة من الزهاد والصالحين ، والعلماء العابدين المجتهدين ، وهم متفاوتون في القرب على قدر تفرغهم من الشواغل والعلائق ، وعلى قدر التخلية والتحلية . ومنهم من يطمئن إليه على نعت البعد من قلبه ، وهم أهل الشواغل والشواغب ، و العلائق والعوائق . وعلامة القرب : وجود حلاوة المعاملة ، كلذيذ المناجاة ، والأنس به في الخلوات ، ووجود حلاوة القرآن والتدبر في معانيه ، حتى لا يشبع منه من كل أوان . وعلامة البعد : فقد الحلاوة المذكورة ، وعدم الأنس به في الخلوة ، وفقد الحلاوة القرآن ، ولو كان من أعظم علماء اللسان . وأهل طمأنينة الشهود على قسمين أيضاً : فمنهم من تشرق عليه أنوار ، وتحيط به الأسرار ، فيغرق في الأنوار وتطمس عنه الآثار ، فيكسر ويغيب عن الأثر في شهود المؤثر ، ويسمى عندهم هذا المقام : مقام الفناء . ومنهم من يصحو من سكرته ، ويفيق من صعقته ، فيشهد المؤثر ، لا يحجبه جمعه عن فرقه ، ولا فرقة عن جمعه ، ولا يضره فناؤه عن بقائه ، ولا بقاؤه ، عن فنائه ، يعطي كل ذي حق حقه ، ويوفي كل ذي قسط قسطه ، وهو مقام البقاء ، ولا يصح وجوده إلا بعد وجود ما قبله ، فلا بقاء إلا بعد الفناء ، ولا صحو إلا بعد السكْر . ومن ترامى على هذا المقام أعني مقام البقاء من غير تحقيق مقام السكر والفناء فهو لم يبرح عن مقام أهل الحجاب . واعلمْ أن طمأنينة الإيمان تزيد وتنقص ، وطمأنينة العيان ، إن حصلت ، تزيد ولا تنقص . فمواد أسباب زيادة طمأنينة الإيمان أشياء متعددة ، فمنهم من تزيد طمأنينته بالتفكر والاعتبار . إما في عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات ، فيطمئن إلى صانعٍ عظيم القدرة باهر الحكمة . وإما بالنظر في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وباهر علمه ، وعجائب حكمه وأسراره ، وإخباره بالأمور الغيبية السابقة والآتية ، مع كونه نبياً أمّياً . فإذا تحقق معرفة الرسول فقد تحقق بمعرفة الله ، واطمأن به لأنه الواسطة العظمى ، بين الله وبين عباده . ومنهم من تزيد طمأنينته بموالاة الطاعات وتكثير القربات ، كالذكر وغيره . ومنهم من تزيد طمأنينته بزيادة الأولياء أحياء أو ميتين . ومادة الأحياء أكثر ، ونور طمأنينتهم أبهر ، لا سيما العارفين ، وفي الأثر : تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين . وأما طمأنيته أهل الشهود : فزيادتها باعتبار زيادة الكشف وحلاوة الشهود ، والترقي في العلوم والأسرار ، والاتساع في المقامات إلى ما لا نهاية له ، في هذه الدار الفانية وفي الدار الباقية ، ففي كل نَفَس يُجدد لهم كشوفات وترقيات ومواهب وتُحف ، على قدر توجههم وتحققهم . حققنا الله بمقامهم ، وأتحفنا بما أتحفهم . آمين ولا بد في تحصيل طمأنينة الشهود من صُحبة شيخ عارف طبيبٍ ماهر ، يقدح عين البصيرة حتى تنفتح فما حجب الناس عن شهود الحق إلا طمسُ البصيرة فإذا اتصل بشيخٍ عارفٍ كحل عين بصيرته أولاً بإثمد على اليقين ، فيدرك شعاع نور الحق قريباً منه ، ثم يكحل عينه ثانياً بإثمد عين اليقين ، فيدرك عدمه لوجود الحق ، أي : يغيب عن حسه بشهود معناه القائم به . ثم يكحل عينه بإثمد حق اليقين ، فيدرك وجود الحق بلا واسطة قدرة وحكمة ، معنى وحساً ، لا يتحجب بأحدهما عن الآخر . وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله : " شعاع البصيرةُ يُشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يُشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يُشهدك وجود الحق ، لا عدمك ولا وجودك . وكان شيء معه ، وهو الآن على ما كان عليه . وأهل طمأنينة الشهودهم خاصة ورثة الرسول عليه الصلاة والسلام