Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 14, Ayat: 10-12)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : وقال الذين كفروا لرسلهم : { إنْ أنتم إلا بشرٌ مثلُنا } لا فضل لكم علينا ، فَلِمَ تختصون بالنبوة دوننا ، ولو شاء الله أن يبعث رسلاً إلى البشر لأرسلهم من جنس أفضل ، كالملائكة ، أو : ما أنتم إلا بشر ، والبشر لا يكون رسولاً . قال ابن جزي : يحتمل أن يكون استبعاداً لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة ، أو يكون إحالة لنبوة البشر ، والأول أظهر لطلبهم البرهان بقولهم : { فأتونا بسلطان مبينٍ } ، ولقول الرسل : { ولكن الله يَمُنُّ على من يشاءُ من عباده } . هـ . ثم قالوا للرسل : { تُريدون أن تَصدُّونَا عما كان يعبدُ آباؤُنا } من الأصنام بهذه الدعوى ، { فأتونا بسلطانٍ مبين } : ببرهان بيِّن يدل على فضلكم ، واستحقاقكم لهذه المرتبة التي هي مرتبة النبوة ، كأنهم لم يعتبروا ما جاؤوا به من البينات والحجج ، فاقترحوا عليهم آية أخرى ، تعنتاً ولجاجاً . { قالت لهم رُسُلهم إن نحن } : ما نحن { إلا بشر مثلُكم ولكن الله يَمُنُّ على من يشاءُ من عباده } بالنبوة والرسالة ، فمَنَّ علينا بذلك ، وإن كنا بشراً مثلكم ، سلّموا لهم مشاركتهم في الجنس ، وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومَنَّهُ عليهم . وفيه دليل على ان النبوة مواهب عطائية لا كسبية . ثم أجابوا عما اقترحوا بقولهم : { وما كان لنا أن نأتيَكم بسلطانٍ إلا بإذنِ الله } ، فليس لنا الإتيان بآيات ، ولا في قدرتنا أن نأتيكم بما اقترحتموه ، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله ، يخص من يشاء بها ، على ما تقتضيه حكمته وسابق إرادته . { وعلى الله فليتوكَّل المؤمنون } ، فلنتوكل نحن عليه ، في الصبر على معاناتكم ومعاداتكم . عمموا الأمر بذكر المؤمنين للإشعار بأن الإيمان موجب للتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً ، ألا ترى قولهم : { وما لنا ألا نتوكل على الله } أي : أيُّ عذر لنا في ترك التوكل على الله ؟ { وقد هَدَانَا سُبُلنا } أي : طرقنا التي نعرفه بها ، فنوحده ، ونعلم أن الأمور كلها بيده ، { ولَنصْبِرَنَّ على ما آذيتمونا } : على أذاكم حتى يحكم الله بيننا ، وهو جواب عن قسم محذوف ، أكدوا به توكلهم ، وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم . { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } أي : فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم ، المسبب عن إيمانهم . قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري . قال ابن جزي : إن قيل : لِمَ كرر الأمر بالتوكل ؟ فالجواب عندي : أن قوله : { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار : { فأتونا بسلطان مبين } أي : حجة ظاهرة ، فتوكل الرسل في ورود ذلك إلى الله . وأما قوله : { فليتوكل المتوكلون } فهو راجع إلى قولهم : ولنصْبرنَّ على ما آذيتمونا أي : نتوكل على الله في دفع أذاكم . هـ . وهو حسن ، لكن التعبير بالمتوكلين يقتضي أن التوكل حاصل ، والمطلوب الدوام عليه ، وقد يقال : إنما عبَّر ثانياً بلفظ المتوكلين كراهية إعادة اللفظ بعينه ، أي : من كان متوكلاً على الله فإنه الحقيق بذلك . وقال في القوت : أي : ليتوكل عليه في كل شيء مَنْ توكل عليه في شيء . وهذا أحسن وجوهه . قال في الحاشية : والوجه الآخر : وعليه فليتوكّل ، في توكله مَنْ تَوكَّل عليه من الأشياء لأن الوكيل في كل شيء واحد ، فينبغي أن يكون التوكل في كل شيء واحد . هـ . الإشارة : سر الخصوصية مستور بأوصاف البشرية ، ولا فرق بين خصوصية النبوة ، والولاية . سترها الحق تعالى غيرةً عليها أن يعرفها من لا يعرف قدرها فلا يطلع عليها إلا من سبقت له من الله العناية ، وهبت عليه ريح الهداية . وفي الحِكَم : " سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية . وقال أيضاً : " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " . قال في لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء ، فقليل من يعرفهم ، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله فإن الله معروف بكماله وجماله ، وحتى متى تعرف مخلوقاً مثلك ، يأكل كما تأكل ، ويشرب كما تشرب ؟ قال فيه : وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته ، وأشهدك وجود خصوصيته . هـ . قلت : ومعنى " طوى عنك وجود بشريته " هو : عدم الوقوف مع أوصافها اللازمة للنقائص ، بل تنفذ منها إلى شهود خصوصيته ، التي هي محل الكمالات . فأوصاف البشرية الذاتية للبشر لا تزول عن الولي ، ولا عن النبي كالأكل والشرب ، والنوم والنكاح ، والضعف والفقر ، وغير ذلك من نعوت البشر لأنها في حقهم رداء وصون لستر خصوصيتهم صيانةً لها أن تتبدل بالإظهار ، وينادى عليها بلسان الاشتهار ، ولذلك اختفوا عن كثير من الخلق . وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله : لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم البشرية " . وقال صاحب كتاب أنوار القلوب : لله سبحانه عباد ضنَّ بهم عن العامة ، وأظهرهم الخاصة ، فلا يعرفهم إلا شكل ، أو محب لهم ، ولله عباد ضنَّ بهم عن الخاصة والعامة ، ولله عباد يُظهرهم في البداية ويسترهم في النهاية ، ولله عباد يسترهم في البداية ويُظهرهم في النهاية ، ولله عباد لا يظهر حقيقة ما بينه وبينهم إلى الحفظة فمن سواهم ، حتى يلقوه بما أودعهم منه في قلوبهم ، وهم شهداء المكلوت الأعلى ، والصفْح الأيمنِ مِنَ العرش الذين يتولى الله قبض أرواحهم بيده ، فتطيب اجسادهم به ، فلا يعدوا عليها الثرى ، حتى يُبعثوا بها مشرقةً بنور البقاء الأبد مع الباقي الأحد عز وجل . هـ . وقال أبو يزيد رضي الله عنه : أولياء الله تعالى عرائس ، ولا يرى العرائس إلا من كان مَحرماً لهم ، وأما غيرهم فلا . وهم مخبأون عنده في حجاب الأنس ، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة . هـ . وجميع ما أجاب به الأنبياءُ قومَهم يجيب به الأولياءُ من أنكر عليهم ، من قوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا } ، من التعلق بالأسباب والانهماك في الحظوظ ، ومتابعة الهوى ، وحب الدنيا ، ومن قولهم : { فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } إلى تمام ما أجابوا به . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر تخويف الكفار للرسل باخراجهم من الديار