Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 35-38)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : قال هنا : { اجعل هذا البلد } بالتعريف ، وقال في سورة البقرة { بَلَداً } [ البقرة : 126 ] بالتنكير ، قال البيضاوي : الفرق بينهما أن المسؤول في الأول أي : في التعريف إزالة الخوف وتصييره أمناً ، وفي الثانية جعله من البلاد الآمنة . هـ . وفرَّق السهيلي : بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة حين نزول آية إبراهيم ، لأنها مكية فلذلك قال فيه : " البلد " بلام التعريف التي للحضور ، بخلاف آية البقرة ، فإنما هي مدينة ، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها ، فلم يُعرفها بلا تعريف الحضور . هـ . قال ابن جزي : وفيه نظر لأن ذلك كان حكاية عن إبراهيم عليه السلام ، ولا فرق بين كونه بالمدينة أو بمكة . هـ . قلت : لا نظر فيه لأن الحق تعالى لم يحك لنا قصص الأنبياء بألفاظهم ، وإنما ترجم عنها بلسان عربي ، فينزل على رعاية مقتضى الحال . ولذلك اختلفت الألفاظ في قصص الأنبياء ، لأن كل قصة تنزل على ما يقتضيه المقام والحال ، من تعريف وتنكير ، واختصار وإطناب . وقد ذكر أبو السعود في سورة الأعراف ما يؤيد هذا ، فانظره . والله تعالى أعلم . يقول الحق جل جلاله : { و } اذكر { إذْ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد } يعني : مكة ، { آمناً } لمن فيها من أغدرة الناس عليها ، أو من الخسف والعذاب ، أو من الطاعون والوباء ، { واجنُبني } أي : امنعني واعصمني ، { وبَنيَّ } من بعدي ، من { أن نعبد الأصنامَ } أي : اجعلنا منهم من جانب بعيد . قال البيضاوي : وفيه دليل على أن العصمة للأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم ، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته ، ورغم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم ، محتجاً به ، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ، وسمونها الدوار ، ويقولون : البيت حجر ، وحيثما نصبت حجراً فهو بمنزلته . هـ . قال ابن جزي : و { بَنِيَّ } يعني : من صُلبه ، وفيهم أجيبت دعوته ، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام . هـ . وقد قال في الإحياء : عنى إبراهيمُ عليه السلام بالأصنام ، الذهب والفضة ، بمعنى : حبهما والأغترار بهما ، والركون إليهما . قال عليه الصلاة والسلام ـ : " تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ والدِّرْهَم … " الحديث لأن رتبة النبوة أجل من أن يُخْشى عليها أن تعتقد الألوهية في شيء من الحجارة . هـ . قلت : الظاهر أن يبقى اللفظ على ظاهره ، في حقه وفي حق بنيه . أما في حقه فلسعة علمه وعدم وقوفه مع ظاهر الوعد ، كما هو شأن الأكابر ، لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، وهذا كقوله : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } [ الأنعام : 80 ] . وتقدم هذا المعنى مراراً . وأما في حق بنيه فإنما قصد العموم في نسله لكن لم يجب إلا فيما كان صلبه فإن دعاء الأنبياء عليهم السلام لا يجب أن يكون كله مجاباً ، فقد يُجابون في أشياء ، ويُمنعون من أشياء . وقد سأل نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته أشياء ، فأجيب في البعض ، ومُنع البعض ، كما في الحديث . ثم قال إبراهيم عليه السلام : { ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس } أي : إن الأصنام أتلفت كثيراً من الخلق عن طريق الحق ، فلذلك سألتُ منك العصمة ، واستعذتُ بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية ، كقوله { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } [ الأنعام : 70 ] . { فمن تبعني } على ديني { فإنه مني } لا ينفك عني في أمر الدين ، { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ، تقدر أن تغفر له ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة . وفيه دليل على أن كل ذنب فللَّه أن يغفره ، حتى الشرك ، إلا أن الوعيد فرَّق بينه وبين غيره ، قاله البيضاوي . قال ابن جزي : { ومن عصاني } يريد : بغير الكفر ، أو عصاه بالكفر ثم تاب منه ، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ، ولكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان فيه عليه السلام من التخلْق بالرحمة للخلق ، وحسن الخُلق . هـ . { ربنا إني أسكنت من ذريتي } أي : بعض ذريتي ، وهو : إسماعيل عليه السلام ، أو : أسكنت ذرية من ذريتي ، وهو إسماعيل ومن وُلِد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم ، { بوادٍ غير ذي زرع } يعني : وادي مكة ، لأنها حجرية لا تنبت ، والوادي : ما بين الجبلين ، وإن لم يكن فيه ماء . ولم يقل : ولا ماء ، ولعله علم بوحي أنه سيكون فيه الماء ، { عند بيتك المحرَّم } الذي حَرَّمه على الجبابرة من التعرض له والتهاون به ، أو : لم يزل محترماً تهابُه الجبابرة ، أو مُنع منه الطوفان ، فلم يستأصله ويمح أثره . وهذا الدعاء وقع منه أول ما قدم ، ولم يكن موجوداً ، فلعله قال ذلك باعتبار ما كان ، أي : عند أثر بيتك المحرم ، أو باعتبار ما يؤول إليه من بنائه وعمارته واحترامه . وقصةُ إنزاله ولده بمكة : أن هاجر كانت مملوكة لسارة ، وهبها لها جبارٌ من الجبابرة وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل مدينة ، وكان فيها جبار يغصب النساء الجميلات ، فأخذها ، وأدخلها بيتاً ، فلما دخل عليها دعت عليه ، فسقط ، ثم قالت : يا رب إن مات قتلوني فيه ، فقام ، فلما دنا منها ، دعت عليه ، فسقط ، فقال في الثالثة : ما هذه إلا شيطانة ، أخرجوها عني ، وأعطوها هاجر ، فعصمها الله منه ، وأخدمها هاجر ، ثم وهبتها لإبراهيم ، فوطئها فحملت بإسماعيل ، فلما ولدته غارت منها فتعب إبراهيم معها ، ثم ناشدته ، سارةُ أن يخرجها من عندها ، فركب البراق ، وخرج بها تحمل ولدها حتى أنزلها مكة ، تحت دوحة ، قريباً من موضع زمزم ، فلما ولى تبعته ، وهي تقول : لِمنْ تتركنا في هذه البلاد ، وليس بها أنيس ؟ ثم قالت : " أألله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذاً لا يُضيعنا . فرجعت تأكل من مِزود ، تم تركها لها ، وتشرب من قربة ماء ، فما فرغ الماء نشف اللبن ، وجعل الولدُ يتخبط من العطش ، فجعلت تطوف من الصفا ، وكان جبلاً صغيراً قريباً منها ، وتذهب إلى المروة ، وتسعى بينهما ، لعلها ترى أحداً ، فلما بلغت سبعة أطواف وسمعت صوتاً في الهواء ، فقالت : أغِثْ إن كان معك غياث ، فتبدَّى جبريلُ بين يديها حتى وصل إلى موضع زمزم ، فهمز بعقبه ففار الماء . فلما رأته دهشت ، وخافت عليه يذهب فجعلت تحوطه ، وتقول : زم زم ، فانحصر الماء . قال صلى الله عليه وسلم : " يَرْحمُ اللهُ أُمَّ إسمَاعِيل ، لَوْ تَركَتْهُ ، كَانَ عَيْناً مَعِيناً " فشربت ، ودرَّ لبنُها . ثم إن جرهم رأوا طيوراً تحوم ، فقالوا : لا طيور إلا على الماء . فقصدوا الموضع ، فوجدوها مع ابنها ، وعندها عين ، فقالوا لها : أتشركيننا في مائك ، ونشركك في ألباننا ؟ ففعلت . وفي حديث البخاري : " قالوا لها : أتحبين أن نسكن معك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء " فرحلوا إليها ، وسكنوا معها ، ثم زوجوا ولدها منهم . وحديث إتيان إبراهيم يتعاهد ابنه ، وبنائهما الكعبة ، مذكور في البخاري والسَّيَر . ثم قال : { ربنا ليُقيموا الصلاة } أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق ، إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم . وتكرير النداء وتوسيطه ، للإشعار بأنها المقصود بالذات من إسكانهم ثَمَّةَ . والمقصود من الدعاء : توفيقهم لها ، وقيل : اللام للأمر ، وكأنه طلب منهم الإقامة ، وسأل من الله أن يوفقهم لها . { فاجعل أفئدة من الناس } أي : اجعل أفئدة من بعض الناس ، { تهوي إليهم } أي : تسرع إليهم شوقاً ومحبة ، و " من " : للتبعيض ، ولذلك قيل : لو قال : أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم ، ولحجت اليهودُ والنصارى . وقيل : للبيان ، أي : أفئدة ناسٍ . { وارزقهم من الثمرات } مع كونهم بوادٍ لا نبات فيه ، { لعلهم يشكرون } تلك النعمة ، فأجاب دعوته ، فجعله حرماً آمناً تُجبى إليه ثمرات كل شيء ، حتى أنه يوجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية ، في يوم واحد . { ربنا إنك تعلم ما نُخفي وما نُعلن } أي : تعلم سرنا ، كما تعلم علانيتنا . والمعنى : إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ، وأرحم منا بأنفسنا ، فلا حاجة لنا إلى الطلب ، لكننا ندعوك إظهاراً لعبوديتك ، وافتقاراً إلى رحمتك ، واستجلاباً لنيل ما عندك . قاله البيضاوي : أي : فيكون مناسباً لحاله في قوله : " علمه بحالي يُغني عن سؤالي " . وقيل : ما نُخفي من وَجْدِ الفرقة ، وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك . وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى . { وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء } لأن علمه أحاط بكل معلوم . " من " : للاستغراق . الإشارة : ينبغي للعبد أن يكون إبراهيمياً ، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة ، فيقول : رب اجعل هذا القلب آمناً من الخواطر والوساوس ، واجنبني وبَنِيَّ ، أي : بَعِّدْنِي ومن تعلق بي ، أن نعبد الأصنام ، التي هي الدنانير والدراهم ، وكل ما يُعشق من دون الله ، { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } فتلفوا في حبها والحرص عليها ، فلا فكرة لهم إلا فيهما ، ولا شغل لهم إلا جمعهما ، فمن تبعني في الزهد فيهما ، والغنى بك عنهما ، فإنه مني ، ومن عصاني ، واشتغل بمحبتهما وجمعهما ، { فإنك غفور رحيم } . وقوله : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع } فيه : تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين . قال الورتجبي : فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم ، ونِعْم التربية ذلك فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة ، الخليلية الحبيبية ، الأحمدية المصطفوية صلوات الله عليهما أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب في حياته وبعد وفاته لتربية عياله ، فإنه تعالى حسبه ، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية ، وإخلاصاً في المعرفة ، وطلباً للمشاهدة ، ومناجاة في القربة بقوله : { ربنا ليقيموا الصلاة } الخ . وقال القشيري : أخبر عن صدق توكله وتفويضه ، أي : أسكنت قوماً من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ، عند بيتك المحرّم . وإنما رد الرِّفق لهم في الجِوارِ فقال : { عند بيتك المحرم } ، ثم قال : { ليقيموا الصلاة } . أي : أسكنتُهم لإقامة حقَّكَ ، لا لِطَلَبِ حظوظهم . ويقال : اكتفى بأن يكونوا في ظلال عنايته ، عن أن يكونوا في ظلال نعيمهم ، ثم قال : قوله : { بوادٍ غير ذي زرع } أي : أسكنتُهم هذا الوادي ، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم ، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم ، فهم مطروحون ببابِكَ مُقيمون بحضرتك ، جار فيهم حُكمك ، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم ، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ . هـ . وقوله تعالى : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } : قال القشيري : ليشتغلوا بعبادتك ، فأفْرِّد قوماً يقومون لهم بكفايتهم ، وارزقهم من الثمرات ، فإنَّ من قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه . فاستجاب الله دعاءَه فيهم ، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت ، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه . وقال الورتجبي : سأل أن يجعلهم مرادي جلاله وجماله ، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين ، بقوله : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } ، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك ، والاقتداء بهم في إقامة سُنتك ، وألبسهم لباس أنوارك ، وألق في قلوب خلقك محبتهم بمحبتك . هـ . ومعنى قوله : مرادي جلاله وجماله : أي : مظهراً لجلاله وجماله ، يعشقهم البَرُّ والفاجر ، والكامل والناقص ، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر بقية كلام إبراهيم عليه السلام .