Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 15, Ayat: 16-25)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } اثني عشر برجاً ، وهي : الحَمَل ، والثور ، والجَوْزاء ، والسرطان ، والأسد والسُّنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجَدْي ، والدلو ، والحوت ، والبرج عبارة عن قطعة في الفلك تقطعها الشمس في شهر فتقطع البروج كلها في سنة ، ستة يمانية ، وستة شمالية ، وهي مختلفة الهيئات والخواص ، على ما دل عليه الرصد والتجربة . وكل ذلك بقدرة المدبر الحكيم . قال تعالى : { وزيَّناها } بالأشكال والهيئات البهية { للناظرين } المعتبرين ليستدلوا بها على قدرة مبدعها ، وتوحيد صانعها . { وحفظها من كل شيطانٍ رجيمٍ } : مرجوم ، فلا يقدر أن يصعد إليها ليسترق السمع منها ، أو يوسوس أهلها ، أو يتصرف في أمرها ، أو يطلع على أحوالها . { إلا من استَرَق السمعَ } أي : حفظناها من الشياطين ، إلا من استرق منها . والاستراق : الاختلاس ، رُوي أنهم يركبون بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء ، فيسمعون أخبار السماء من الغيب ، فيخطف الجن الكلمة قبل الرمي فيلقيها إلى الكهنة ، ويخلط معها مائة كذبة ، كما في الصحيح . رُوي عن ابن عباس : أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات ، فلما ولد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سماوات ، فلما وُلد محمد صلى الله عليه وسلم مُنعوا من كلها بالشهب . وقيل : الاستثناء منقطع ، أي : ولكن من استرق السمع ، { فأتبعه } لحقه { شهابٌ مبين } ظاهر للمبصرين . والشهاب : شُعلة نار يقتبسها الملك من النجم ، ثم يضرب به المسترق ، وقيل : النجوم هي التي تضرب بنفسها ، فإذا أصابت الشيطان فتلته أو خبلته فيصير غولاً . ثم ذكر معجزة الأرض فقال : { والأرضَ مددناها } : بسطناها ، { وألقينا فيها رواسيَ } جبالاً ثوابت ، { وأنبتنا فيها } في الأرض ، أو فيها أو في الجبال { من كل شيء موزونٍ } مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته . فالوزن مجاز ، أو ما يكون يوزن حقيقة كالعشب النافعة ، أو كالذهب والفضة وسائر الأطعمة . { وجعلنا لكم فيها معايش } تعيشون بها من المطاعم والملابس ، { و } خلقنا لكم { من لستم له برازقين } من الولدان والخدمة والمماليك ، وسائر ما تظنون أنكم ترزقونهم كاذباً فإن الله يرزقكم وإياهم . قال البيضاوي : وفذلكة الآية : الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار معين ، مختلفة الأجزاء في الوضع ، محدثة فيها أنواع النباتات والحيوانات المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز ألا تكون كذلك على كمال قدرته ، وتناهي حكمته ، والتفرد في ألوهيته ، والامتنان على العباد بما أنعم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه . ثم بالغ في ذلك فقال : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } أي : وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه ، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يجوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد . هـ . قال ابن جزي : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنُه } قيل : المطر ، واللفظ أعم من ذلك ، والخزائن : المواضع الخازنة ، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت . هـ . { وما نُنَزَّله } أي : نبرزه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، { إلا بقَدَر معلوم } : بمقدار محدود في وقت معلوم اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة ، لا يزيد ولا ينقص على ما سبق به العلم . { وأرسلنا الرياحَ لواقحَ } : حوامل للماء في أوعية السحاب ، يقال : لقحت الناقة والشجرة إذا حملت ، فهي لاقحة ، وألْقَحَت الريحُ الشجرَ فهي ملقحة . ولواقح : جمع لاقحة ، أي : حاملة ، أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة ، فهي على هذا ملقحة للسحاب أو الشجر ، ونظيره : الطوائح ، بمعنى المطيحات في قوله : @ ومُخْتَبِط مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ @@ والرياح أربعة : صَبَا ، ودَبُور ، وجَنوب ، وشمال . والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة ، وتسمى الشمال الحائل والعقيم . وفي البخاري : " نُصِرْتُ بالصَّبَا ، وأُهْلكَتْ عَادٌ بالدُّبُور " . وروي أبو هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الرِّيحُ الجنوب من الجنة ، وهي اللواقح التي ذكر الله ، وفيها منافع للناس " وفي الحديث : " الرِّيحُ من نفس الرحمن " والإضافة هنا إضافة خلق إلى خالق ، كما قال : { مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] . ومعنى نفس الرحمن ، أي : من تنفيسه وإزالة الكرب والشدائد ، فمن التنفيس بالريح : النصر بالصبا ، وذر الأرزاق بها ، وجلب الأمطار ، وغير ذلك مما يكثر عده . قاله ابن عطية . والمختار في تفسير اللواقح : أنها حاملة للماء ، قوله : { فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه } أي : جعلنا لكم سقيا . يقال : سقى وأسقى بمعنى واحد عند الجمهور . { وما أنتم له بخازنين } : بممسكين له في الجبال ، والغدران ، والعيون ، والآبار ، فتخرجونه متى شئتم ، بل ذلك من شأن المدبر الحكيم ، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور ، فوقوفه دون حد لا بد له من مسبب مخصص ، وجريه بلا انتهاء لا يكون إلا بقدرة السميع العليم ، الذي لا تتناهى قدرته . أو : { وما أنتم له بخازنين } بقادرين متمكنين من إخراجه وقت الاحتياج إليه . نفى عنهم ما أثبته لنفسه بقوله : { عندنا خزائنُه } . { وإنا لنحن نُحيي ونُميت } أي : نحيي من نريد إحياءه بإيجاد الحياة فيه ، ونميت من نريد إماتته بإزالة الحياة منه . وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات . وتكرير الضمير للدلالة على الحصر . { ونحن الوارثون } : الباقون إذا مات الخلائق كلهم . { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } أي : علمنا من تقدم ولادةً ، ومن تأخر ، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعدُ ، أو من تقدم إلى الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ، ومن تأخر ، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم . وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ، فإنَّ ما يدل على كمال قدرته دليل على كمال علمه . وقيل : رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول ، فازدحموا عليه ، فنزلت ، وقيل : إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه ، فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها ، وتأخر بعض ليبصرها ، فنزلت . قاله البيضاوي : { وإن ربك هو يحشرهم } لا محالة للجزاء ، كأن هذا هو الغرض من ذكر العلم بالمتقدمين والمتأخرين لأنه إذا أحاط بهم علماً لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم . { إنه حكيمٌ } باهر الحكمة ، { عليم } واسع العلم والإحاطة بكل معلوم . قال البيضاوي : وفي توسيط الضمير يعني في قوله : { هو يحشرهم } للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره ، وتصدير الجملة بأن لتحقيق الوعيد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم . هـ . الإشارة : ولقد جعلنا في سماء قلوب العارفين بروجاً ، وهي المقامات التي ينزلون فيها بشموس عرفانهم ، وهي : التوبة ، والخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة . وزيناها للناظرين أي : السائرين حتى يقطعوها جملة محمولين بعناية الجذب ، حتى يَحلو لهم ما كان مُراً على غيرهم ، وحفظنا سماء قلوبهم من طوارق الشيطان ، إلا ما كان طيفاً خيالياً لا يثبت ، بل يتبعه شهاب الذكر فيحرقه ، وأرضَ النفوس مددناها لقيام رسم العبودية ، وظهور عالم الحكمة وآثار القدرة ، وألقينا فيها جبال العقول الرواسي ، لتعرف الرب من المربوب الذي اقتضته الحكمة . وأنبتنا فيها من العلوم الرسيمة والعقلية ، ما قدر لها في العلم المكنون ، وجعلنا لكم فيها من علم اليقين ، وحق اليقين ما تتقوت به قلوبكم ، وتعيش به أرواحكم وأسراركم ، وتعولون به من لستم له برازقين من المريدين السائرين . سُئل سهل رضي الله عنه عن القوت ، فقال : هو الحي الذي لا يموت ، فقيل : إنما سألناك عن القوام . فقال : القوام هو العلم ، فقيل : سألناك عن الغذاء ، فقال : الغذاء هو الذكر ، فقيل : سألناك عن طعام الجسد ، فقال : ما لَكَ وللجسد ، دع من تولاَّه أولاً يتولاه آخراً ، إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه ، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها . وأنشدوا : @ يَا خادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ وتَطلُب الربْحَ مما فيه خُسْرَانُ عليك بالنفسِ فاستكمل فَضِِيلَتَهَا فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ @@ واستكمال فضيلة النفس هو تزكيتها وتحليتها حتى تشرق عليها أنوار العرفان ، وتخرج من سجن الأكوان . وبالله التوفيق . ثم قال تعالى : { وإن من شيء } من الأرزاق المعنوية والحسية ، أو العلوم اللدنية ، والفتوحات القدسية { إلا عندنا خزائنه } فمن توجه بكليته إلينا فتحنا له خزائن غيبنا ، وأطلعناه على مكنون سرنا شيئاً فشيئاً ، { وما نُنزله إلا بقدر معلوم } . وقال الورتجبي : عِلْم الإشارة في الآية : دعوة العباد إلى حقائق التوكل ، وهي : قطع الأسباب ، والإعراض عن الأغيار ، قيل : كان الجنيد رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } ، قال : فأين تذهبون ؟ . وقال حمدون : قطع أطماع عبيدهِ عمن سواه بقوله : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } ، فمن رفع بعد هذا حاجته إلى غيره ، فهو لجهله ولؤمه . هـ . وأرسلنا رياح الهداية لواقح ، تلقح الطمأنينة والمعرفة في قلوب المتوجهين ، وتلقح اليقين والتوفيق في قلوب الصالحين ، وتلقح الإيمان والهداية في قلوب المؤمنين ، فأنزلنا من سماء الغيب ماء العلم اللدني ، فأسقيناكموه على أيدي وسائط الشيوخ ، أو بلا واسطة ، وما أنتم له بخازنين ، بل يفيض على قلوبكم عند غلبة الحال ، أو لهداية مريد ، أو عند الاحتياج إليه عند استفتاح القلوب ، وإنا لنحن نُحيي قلوباً بالمعرفة واليقين ونميت قلوباً بالجهل والكفر ، ونحن الوارثون لبقاء انوارنا على الأبد . ولقد علمنا المستقدمين منكم إلى حضرة قدسنا بالاستعداد ، وإعطاء الكلية من نفسه ، ولقد علمنا المستأخرين عنها بسبب ضعف همته ، وإن ربك هو يحشرهم فيُقرب قوماً لسبقهم ، ويبعد آخرين لتأخرهم . إنه حكيم عليم . ثمَّ ذكر أول نشأة الثقلين ليدلبها على الحشر والاعادة