Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 28-41)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : وإذْ قال : ظرف لاذكر ، وقوله : { فَقَعُوا } : امرٌ ، من وقَع ، يقع ، قَعْ ، فهو مما حُذفت فاؤه . وقوله : فسجد معطوف على محذوف ، أي : فخلقه ، وأمر الملائكة فسجدوا . يقول الحق جل جلاله : { و } اذكر يا محمد { إذْ قال ربك للملائكة } ، قبل خلق آدم : { إني خالق بشراً من صَلْصَالٍ من حمأٍ مسنونٍ } ، وصفه لهم بذلك ليظهر صدق من يمتثل أمره ، قال تعالى : { فإذا سويتُه } : عدلت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها ، { ونفختُ فيه من روحي } حين جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي ، وأصل النفخ : إجراء الروح في تجويف جسد آخر . ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب ، وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسري في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن ، جعل تعلقه بالبدن نفخاً . قاله البيضاوي . وأضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك ، اي : من الروح الذي هو لي ، وخلق من خلقي . فإذا نفخت فيه { فَقَعوا } : فأسقطوا { له ساجدين فسجد الملائكةُ } حين أكمل خلقته ، وأمرهم بالسجود ، وقيل : اكتفى بالأمر الأول ، { كلُّهم أجمعون } ، أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص ، { إلا إبليس أبى } : امتنع { أن يكون مع الساجدين } ، قال البيضاوي : إن جُعِل الاستثناء منقطعاً اتصل به قوله : { أبَى } أي : لكن إبليس أبَى أن يسجد ، وإن جُعِل متصلاً كان قوله : { أبَى } : استئنافاً ، على أنه جواب سائل قال : هلا سجد ؟ فقال : أبى … الخ . قلت : والأحسن : أن يقدر السؤال بعد قوله : { إلا إبليس أبى } أي : وما شأنه ؟ فقال : أبى أن يكون مع الساجدين . قال تعالى : { يا إبليس ما لكَ } أي شيء عرض لك ، { ألا تكونَ مع الساجدين } لآدم ؟ { قال لم أكن لأسجُدَ } أي : لا يصح مني ، بل ينافي حالي أن أسجد { لبشرٍ } جسماني كثيف ، وأنا روحاني لطيف ، وقد { خلقتَه من صلصالٍ من حمإ مسنونٍ } ، وهو أخس العناصر ، وخلقتني من نار وهي أشرفها . استنقص آدم من جهة الأصل ، وغفل عن الكمالات التي خصه الله بها ، منها : أنه خلقه بيديه بلا واسطة ، أي : بيد القدرة والحكمة ، بخلاف غيره ، ومنها : أنه خصه بالعلوم التي لم توجد عند غيره من الملائكة ، ومنها : أنه نفخ فيه من روحه المضافة إلى نفسه ، ومنها : أنه جعله خليفة في أرضه … إلى غيره ذلك من الخواص التي تشرف بها فاستحق السجود . قال له تعالى لَمَّا امتنع واستكبر : { فاخرجْ منها } أي : من السماء ، أو من الجنة ، أو من زمرة الملائكة ، { فإنك رجيمٌ } : مطرود من الخير والكرامة فإنَّ من يُطرد يُرجم بالحجر ، أو شيطان يُرجم بالشهب ، فهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته ، أي : ليس الشرف بالأصل ، إنما الشرف بالطاعة والقرب . { وإن عليك اللعنةَ } : الطرد والإبعاد { إلى يوم الدين } يوم الجزاء ، ثم يتصل باللعن الدائم . وقيل : إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس ، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن ، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن . { قال ربِّ فأنْظِرني } : أخرني { إلى يوم يُبعثون } ، أراد أن يجد فسحة في الإغواء ، ونجاة من الموت ، إذ لا موت بعد وقت البعث ، فأجابه إلى الأول دون الثاني ، { قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم } : المعين فيه أجلك عند الله ، وانقراض الناس كلهم ، وهو النفخة الأولى عند الجمهور . وهذه المخاطبة ، وإن لم تكن بواسطة ، لا تدل على منصب إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال . قاله البيضاوي . وجزم ابن العربي ، في سراج المريدين ، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة ، قال : لأن الله لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس ، فكيف يكلم من تولى إضلالهم . هـ . وتردد المازُريُّ في ذلك وقال : لا قاطع في ذلك ، وإنما فيه ظواهر ، والظاهر لا تفيد اليقين . ثم قال : وأما قوله : { ما منعك أن تسجد } : فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها ، تقول العرب : كلمت فلاناً مشافهة ، بالكلام ، وتارة بالبعث . هـ . قلت : الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب ، كلامَ عتابٍ وإهانة ، كما يوبخ الكفار يوم القيامة ، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين ، وإن وُجِدَتْ صُورَةً . ثم قال : { ربِّ بما أغويتني } أي : بسبب إغوائك لي ، { لأُزَيِّنَنَّ لهم في الأرض } ، وقيل : الباء للقسم ، أي : بقدرتك على إغوائي ، لأزينن لهم المعاصي والكفر في الدنيا ، التي هي دار الغرور . قال ابن عطية : قوله : { رَبِّ } : مع كفره ، يُخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق ، وهذا لا يدفع في صدر كفره . وقال ، على قوله : { لم أكن لأسجد } : ليس هذا موضع كفره عند الحذاق لأن إبايته إنما هي معصية فقط ، أي : وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره . وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن آدم مفضول ، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه ، فرأى أن ذلك جور ، فقاس وأخطأ ، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله تعالى المالك للجميع . هـ . مختصراً . وقال المازري : أما كفر إبليس فمقطوع به لقوله : { وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 34 ] ثم قال : ويؤكده قوله : { ربِّ بما أغويتني } ، وقوله : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ … } الآية [ ص : 85 ] ، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره . وأما : هَلْ حدث هذا الكفر بعد إيمان سابق ، أو لم يزل كافراً منذ كان ؟ فهذا لا يحصله إلا نص قرآن ، أو خبر متواتر ، أو إجماع أمة ، وهي المحصلة للعلم ، وهذه الثلاثة مفقودة هنا . هـ . قلت : والظاهر أن كفره لم يظهر إلا بعد الأمر بالسجود لآدم ، وإنما سبق به العلم القديم ، وكان قد أظهر الإيمان والعبادة والله تعالى أعلم . وقوله : { ولأغوينّهم أجمعين } أي : لأحملنهم على الغواية أجمعين ، { إلا عبادكَ منهم المخلَصين } الذين أخلصتهم لطاعتك ، وطهرتهم من الشهوات ، فلا يعمل فيهم كيدي . ومن قرأ بالكسر فمعناه : الذين أخلصوا دينهم لله ، وتحصنوا بالإخلاص في سائر أعمالهم . { قال } تعالى : { هذا صراطٌ عليَّ مستقيمٌ } الإشارة إلى نجاة المخلصين ، أو إلى العبادة والإخلاص ، أي : هذا الطريق الذي سلكه أهل الإخلاص في عبوديتهم هو طريق وارد عليَّ ، وموصل إلى جواري ، لا سبيل لك على أهله لأنه مستقيم لا عوج فيه . وقيل : الإشارة إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومخلص ، أي : هذا أمر إليَّ مصيره ، والنظر فيه لي ، عليَّ أن أراعيه وأبينه ، مستقيم لا انحراف فيه . وقرأ الضحاك ومجاهد والنخعي ، وغيرهم : " عَلِيٌّ بكسر اللام والتنوين ، من العلو والشرف ، والإشارة حينئذٍ إلى الإخلاص ، أي : هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهلَه يا إبليس . الإشارة : إنما يصعب الخضوع للجنس أو لمن دونه ، في حق من يغلب حسه على معناه ، وفرقُه على جمعه وأما من غلب معناه على حسه ، حتى رأى الأشياء الحسية أواني حاملة للمعاني ، أي : لمعاني أسرار الربوبية ، بل رآها أنواراً بارزة من بحر الجبروت ، لم يصعب عليه الخضوع لشيء من الأشياء لأنه يراها قائمة بالله ، ولا وجود لها مع الله ، فلا يخضع حينئذٍ إلا لله ، فالملائكة - عليهم السلام - نفذت بصيرتهم ، فرأوا آدم عليه السلام قبلة للحضرة القدسية ، فغلب عليهم شهود المعاني دون الوقوف مع الأواني ، فخضعوا لآدم صورةً ، ولله حقيقة . وإبليس وقف مع الحس ، وحجب بالفرق عن الجمع ، فلم ير إلا حس آدم دون معناه ، فامتنع عن السجود ، وفي الحِكَم العطائية : " فمن رأى الكون ، ولم يشهد الحق فيه ، أو عنده ، أو قبله ، أو بعده ، أو معه ، فقد أعوزه وجود الأنوار ، وحجبت عنه شموس المعارف بحب الآثار " . ولهذا المعنى صعب الخضوع للأشباح لغلبة الفرق على الناس ، إلا من سبقت له العناية ، فإنه يخضع مع الفرق محبة لله ، حتى يفتح الله عليه في مقام الجمع ، فيخضع لله وحده . والتوفيق لهذا ، والسير على منهاجه أعني الخضوع لمن يوصل إلى الله هو الصراط الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله : { هذا صراط عَلَيَّ مستقيم } . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر من لا تسل للشيطان عليه فقال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ … }