Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 15, Ayat: 42-48)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : إلا من اتبعك : يحتمل ان يكون منقطعاً ، ويريد بالعباد : الخصوص من أهل الإيمان والإخلاص ، أي إن عبادي المخلَصين لا تسلط لك عليهم ، لكن من اتبعك من الغاوين فهو من حزبك . ويحتمل الاتصال ، ويريد بالعباد جيمع الناس ، أي : إن عبادي كلهم ليس لك عليهم سلطان ، إلا من اتبعك من أهل الغواية . فإنك تتسلط عليه بالوسوسة والتزيين والتحريض فقط ، فيتبعك لقوله يوم القيامة { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } [ إبراهيم : 22 ] . وعلى الاتصال يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى ، وإلا تناقض مع قوله : { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } . قال أبو المعالي : كون المستثنى أكثر من المستثنى منه ليس معروفاً في كلام العرب . انظر ابن عطية والبيضاوي . و { منهم } : حال من جزء مقدم ، أي : لكل باب جزء حاصلٌ منهم مقسوم ، أو من المستكن في الظرف لا من مقسوم ، لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها . و { إخواناً } : حال من الضمير المضاف إليه لأنه جزء ما أضيف إليه ، والعامل فيه : الاستقرار ، أو معنى الإضافة ، وكذا : { على سُرُر متقابلين } ، ويجوز أن يكون صفتين لإخوان ، أو حالين من ضميره . يقول الحق جل جلاله : { إنَّ عبادي } المتحققين بالعبودية لي ، المخلصين في أعمالهم ، { ليس لك } يا إبليس { عليهم سلطانٌ } أي : غلبة وتسلط بالغواية والإضلال ، { إلا من اتبعك من الغاوين } الذين سبقت لهم الغواية ، وتنكبتهم العناية . { وإنَّ جهنم لموعدهم } : لموضع إبعاد الغاوين أو المتبعين لك { أجمعين } ، { لها سبعة أبواب } يدخلون فيها لكثرتهم ، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة ، وفي كل طبقة باب يسلك منه إليها ، فأعلاها : جهنم ، وهي للمذنبين من الموحدين ، ثم لظى لليهود ، ثم الحُطمة للنصارى ، ثم السعير للصابئين ، ثم سقر للمجوس ، ثم الجحيم للمشركين ، وكبيرهم أبو جهل ، ثم الهاوية ، وهي الدرك الأسفل ، للمنافقين ، وعبَّر في الآية عن النار جملة ، بجهنم إذ هي أشهر منازلها وأولها ، وهو موضع العصاة الذين لا يخلدون ، ولهذا رُوي أن جهنم تخرب وتبلى ، يعني : حين يخرج العصاة منها . وقيل : أبواب الطبقات السبع كلها من جهنم ، ثم ينزل من كل باب إلى طبقته التي تفضى إليه . قاله ابن عطية . قال البيضاوي : ولعل تخصيص العدد بالسبعة ، لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات ، ومتابعة القوة الشهوية والغضبية . هـ . فالقوة الشهوية محلها ست وهي : السمع والبصر والشم واللسان والبطن والفرج . والقوة الغضبية في البطش باليد والرجل ، فالمعاصي المهلكات جلها من هذه السبع ، ومَلِكها القلب ، إذا صلح صلحت ، وإذا فسد فسدت . كما في الحديث ثم قال البيضاوي : أو لأن أهلها فرق سبع هـ يعني الفرق التي تقدمت للطبقات ، قال تعالى : { لكل بابٍ منهم } أي : من الأتباع { جُزْءٌ مَقْسومٌ } أفرد له ، لا يدخل إلا منه ، ولا يسكن إلا في طبقته . وقد تقدم أهل كل طبقة ، من عصاة الموحدين إلى المنافقين . ثم شفع بضدهم ، على عادته سبحانه وتعالى في كتابه ، فقال : { إنَّ المتقين } للكفر والفواحش ، أو لمتابعة إبليس ، { في جنات وعيون } ، لكل واحد جنة وعين ، أو لكل واحد جنات وعيون ، يقال لهم عند دخولهم : { ادخلُوها } ، وقرأ رويس عن يعقوب : " أدخلُوها " بضم الهمزة وكسر الخاء ، على البناء للمفعول ، فلا يكسر حينئذٍ التنوين ، أي : تقول الملائكة لهم : ادخلوها ، أو قد أدخلهم الله إياها . { بسلام } أي : سالمين من المكاره والآلام ، أو مسلماً عليكم بالتحية والإكرام ، { آمنين } من الآفة والزوال . { وَنَزَعْنا ما في صُدُورهم من غلٍّ } أي : من حقد وعداوة كانت في الدنيا ، وعن علي رضي الله عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ، أو من التحاسد على درجات ومراتبِ القُرْبِ . قلت : أما التحاسد على مراتب القرب فلا يكون لاستغناء كل أحد بما لديه ، وأما التأسف والندم على فوات ذلك بالتفريط في الدنيا فيحصل ، ففي الحديث : " ليس يَتَحَسَّرُ أهْلُ الجَنَّةِ على شيء إلاَّ على سَاعَةٍ مَرَّتْ لهم لَمْ يَذْكُرُوا الله فيهَا " ولا يحصل التحسر حتى يرى ما فاته باعتبار وقوفه . قال ابن عطية : ذكر هنا نزع الغل من قلوب أهل الجنة ، ولم يذكر له موطناً ، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط ، وجاء في بعضها : أن ذلك على أبواب الجنة ، وفي بعضها : ان الغل يبقى على أبوابها كمعاطن الإبل . ثم قال : وجاء في بعض الأحاديث : أن نزع الغل إنما يكون بعد استقراهم في الجنة . والذي يقال في هذا : أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين . هـ . قلت : والذي جاء في الأحاديث الواردة في أخبار الآخرة : ان أهل الجنة ، إذا قربوا منها وجدوا على بابها عينين ، فيغتسلون في إحداهما ، فتنقلب إجسادهم على صورة آدم عليه السلام ، ثم يشربون من الأخرى فتطهر قلوبهم من الغل والحسد ، وسائر الأمراض ، وهو الشراب الطهور . قاله القشيري في قوله تعالى { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] : يقال : يُطَهَّرُهم من محبة الأغيار ، ويقالُ : ويُطَهَّرُهم من الغلِّ والغِشِّ والدَّعوى … الخ ما ياتي إن شاء الله تعالى . والله تعالى أعلم ، وسترى وتعلم . ثم قال تعالى : { إخواناً } ، أي : لما نزعنا ما في صدورهم من الغل صاروا إخواناً متوددين ، لا تباغض بينهم ولا تحاسد ، { على سُرُرٍ متقابلين } يقابل بعضهم بعضاً على الأسرة ، لا ينظر أحد في فناء صاحبه . وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : المتجه أن المقابلة معنوية ، وهي عدم إضمار الغل والإعراض ، سواء اتفق ذلك حسّاً أم لا ، ومن أضمر لأخيه غلاً فليس بمقابله ، ولو كان وجهه إلى وجهه ، بل ذلك أخلاقُ نفاقٍ ، ولذلك شواهد بذمه لا بمدحه . هـ . { لا يَمسُّهم فيها نَصَبٌ } أي : تعب ، { وما هم منها بمخْرَجين } ، لأن تمام النعمة لا يكون إلا بالخلود والدوام فيها . أكرمنا الله بتمام نعمته ، ودوام النظر إلى وجهه آمين . الإشارة : لا ينقطع عن العبد تسلط الشيطان حتى يدخل مقام الشهود والعيان ، حين يكون عبداً خالصاً لله ، حراً مما سواه ، وذلك حين ينخرط في سلك القوم ، ويزول عنه لوث الحدوث والعدم ، فيفنى من لم يكن ، ويبقى من لم يزل ، وذلك بتحقيق مقام الفناء ، ثم الرجوع إلى مقام البقاء . قال الشيخ أبو المواهب رضي الله عنه : من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء وذلك أن العبد حين يتصل بنور الله ، ويصير نوراً من أنواره ، يحترق به الباطل ويدمغ ، فلا سبيل للأغيار عليه . ولذلك قال بعضهم : نحن قوم لا نعرف الشيطان ، فقال له القائل : فكيف ، وهو مذكور في كتاب الله تعالى ، قال تعالى { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [ فاطر : 6 ] ؟ . فقال : نحن قوم اشتغلنا بمحبة الحبيب ، فكفانا عداوة العدو . وحين يتحقق العبد بهذا المقام ينخرط في سلك قوله تعالى : { إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل … } الآية ، وهذا لا ينال إلا بالخضوع لأهل النور ، حتى يوصلوه إلى نور النور ، فيصير قطعة من نور غريقاً في بحر النور . ومع هذا لا ينقطع عنه الخوف والرجاء