Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 61-77)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : وقضينا إليه ذلك الأمر ، القضاء هنا بمعنى القدر السابق ، وضمَّنه معنى أوحينا ، فعداه بإلى . وأنَّ دابر : بدل من الأمر ، وفي ذلك تفخيم الأمر وتعظيم له ، و مُصبحِين : حال من " هؤلاء " ، أو من ضمير مقطوع ، وجمعه للحمل على المعنى لأن دابر بمعنى دوابر ، أي : قطعنا دوابرهم حال كونهم داخلين في وقت الصباح . ولعمركَ : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : قسمي ، قال ابن عزيز : عَمْرٌ وعُمْرٌ واحد ، ولا يقال في القسم إلا مفتوحاً ، وإنما فتح في القسم فقط لكثرة الاستعمال . يقول الحق جل جلاله : { فلما جاء آلَ لوطٍ المرسلين } ، وهم أضياف إبراهيم ، فلما دخلوا عليه ولم يعرفهم ، { قال إنكم قومٌ منكرون } لا نعرفهم . أو تنكركم نفسي مخافة أن تطرقوني بشيء ، { قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } أي : ما جئناك بما تنكرنا لأجله ، بل جئناك بما يسرك ، وهو : قطع الفاحشة من بلدك ، وإتيان العذاب لعدوك الذي توعدناهم ، فكانوا يمترون فيه ويشكون في إتيانه ، { وأتيناك بالحق } باليقين الثابت ، وهو إتيان العذاب لا محالة ، { وإنَّا لصادقون } فيما أخبرناك به . { فأسرِ بأهلك } : فاذهب بهم { بقطْعٍ من الليل } أي : فاخرح بهم في طائفة من الليل ، قيل : آخره ، { واتَّبع أدبارَهم } أي : كن خلفهم في ساقتهم ، حتى لا يبقى منهم أحد ، أو : أمره بالتأخر عنهم ليكونوا قدامه ، فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا خلفه لخوفه عليهم ، أي : ليسرع بهم ، ويطلع على أحوالهم . { ولا يلتفت منكم أحدٌ } خلفه ، لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه ، أو : ولا ينصرف أحد منكم ، ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما أصابهم . وقيل : نهوا عن الالتفات ليوطنوا أنفسهم على الهجرة . { وامضوا حيث تُؤمرون } أي : إلى حيث أمركم الله ، وهو الشام أو مصر ، وقال بعضهم : " ما من نبي هلك إلا لحق بمكة ، وجاور بها حتى مات " . { وقضينا } : أوحينا { إليه ذلك الأمر } ، وهو هلاك قومه ، ذكره مبهماً ثمَّ فسره بقوله : { أنَّ دابر هؤلاء مقطوع } وهو كناية عن استئصالهم ، والمعنى : أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد ، حال كونهم وقت العذاب { مُصْبِحين } : داخلين في الصباح . { وجاء أهلُ المدينة } ، وهي سدوم ، { يستبشرون } بأضياف لوط طمعاً فيهم في فعل الفاحشة ، والظاهر : أن هذا المجيء إليه ، وما جرى له معهم من المحاورة ، كان قبل الإعلام بهلاكهم ، كما تقدم في هود . وانظر ابن عطية : فلما جاؤوه يراودونه عن ضيفه { قال إنَّ هؤلاء ضيفي فلا تَفْضَحُون } بهتك حرمة ضيفي ، فإنَّ من فُضح ضيفه فقد فُضح هو ، ومن أًسِيء إلى ضيفه فقد أُسيء إليه ، { واتقوا الله } في ركوب الفاحشة ، { ولا تُخزُون } : ولا تهينوني بإهانتهم . والخزي هو الهوان ، أو : ولا تخجلون فيهم ، من الخزاية وهو الحياء . { قالوا أو لم ننْهكَ عن العالمين } عن أن تجير منهم أحداً ، أو تحول بيننا وبينهم ، وكانوا يتعرضون لكل أحد ، وكان لوط عليه السلام يمنعهم ويزجرهم عنه بقدر وسعه . وذكر السدي : إنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة بالغرباء ، ولا يفعلونها بعضهم ببعض ، فكانوا يعترضون الطرق . هـ . أو : أَوْ لم ننهك عن ضيافة العالمين وإنزالهم ؟ { قال هؤلاء بناتي } تُزَوِّجُوهُنَّ إياكم ، وقد كان يمنعهم قبل ذلك لكفرهم ، فأراد أن يقي أضيافه بهن . ولعله لم يكن حراماً في شريعته ، أو يريد بالبنات نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم ، { إن كنتم فاعلين } قضاء الوطر ، أو : ما أقول لكم من التزويج ، فابوا ، ولجوا في عملهم . قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { لَعَمْرُكَ } : لحياتك يا محمد ، أقسم بحياته عليه الصلاة والسلام لشرف منزلته عنده . قال ابن عباس رضي الله عنهما : " ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته ، فقال : { لَعَمْرُكَ إنهم لَفِي سَكْرتهم يَعمهون } قال القرطبي : وإذا أقسم الله بحياة نبيه فإنما أراد التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته . وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم : ينعقد به يمينه ، وتجب الكفارة بالحنث ، واحتج بكون النبي صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة . قال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد : هذا إذ استدل من جوّز الحلف به عليه الصلاة والسلام ، بأن أيمان المسلمين جرت من عهده صلى الله عليه وسلم حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا جاء صاحبه قال له : احلف لي بما حوى هذا القبر ، وبحق ساكن هذا القبر ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم . هـ . قلت : ومذهب مالك أنه لا ينعقد يمين بغير الله ، وصفاته ، وأسمائه . وقيل : إن قوله تعالى : { لعمركَ } : هو من قول الملائكة للوط ، أو لحياتك يا لوط ، { إنهم لَفَي سَكْرتهم يَعمهون } أي : لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ والصواب ، يتحيرون . والغلمة : شهوة الوقاع . والعمه : الحيرة ، أي : إنهم لفي عماهم يتحيرون ، فكيف يسمعون نصح من نصحهم ؟ والضمائر لقوم لوط ، وقيل : لقريش ، والجملة : اعتراض . قال تعالى : { فأخذتهم الصيحةُ } ، يعني : صيحة هائلة مهلكة . قال ابن عطية : هذه الصيحة صيحة الرجعة ، وليست كصيحة ثمود . هـ . وقيل : صاح بهم جبريل فأهلكتهم الصيحة ، { مُشْرِقينَ } : داخلين في وقت شروق الشمس فابتدئ هلاكهم بعد الفجر مصبحين ، واستوفى هلاكهم مشرقين . { فجعلنا عاليَها } أي : عالي المدينة ، أو قراها ، { سافِلَها } ، فصارت منقلبة بهم . رُوي أن جبريل عليه السلام اقتلعَ المدينة بجناحيه ورفعها ، حتى سمعت الملائكة صراخ الديكة ونباح الكلاب ، ثم قلبها وأرسل الكل فمن كان داخل المدينة أو القرى مات ، ومن كان خارجاً عنها أرسلت عليه الحجارة ، كما قال تعالى : { وأمطرنا عليهم حجارةً من سجيل } : من طين متحجر مطبوخ بالنار . وقد تقدم في سورة هود مزيد بيان لهذا . { إنَّ في ذلك لآيات للمتوسِّمِين } : المتفكرين المعتبرين المتفرسين في الأمور ، الذين يثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته ، { وإنَّها } أي : المدينة أو القرى ، { لَبِسبِيلٍ مُقيم } : لفي طريق ثابت يسلكه الناس ، ويمرون به ، ويرون آثارها . { إنَّ في ذلك لآيةً } : لعبرة { للمؤمنين } بالله ورسله فإنهم هم المهتدون للتفكر والاعتبار ، دون من غلبت عليه الغفلة والاغترار ، كحال الكفار والفجار . والله تعالى أعلم . الإشارة : ما بعث الله داعياً يدعو إليه إلا وكان أول ما يدعوهم إليه بعد الإيمان ، الخروج من العوائد والحظوظ النفسانية ، وما هلك من هلك من الأمم إلا بالبقاء معها ، وعدم الخروج عنها ، وما نجى من نجى إلا بالخروج عنها . وكذلك في طريق الخصوصية : ما بعث الله ولياً مربياً إلا وكان أول ما يأمر : بخرق العوايد لاكتساب الفوائد ، فلا طريق لخصوصية الولاية إلا منها . وفي الحكم : " كيف تخرق لك العوائد ، وأنت لم تخرق من نفسك العوائد " . فمن تربى في الرئاسة والجاه فلا مطمع له في الخصوصية حتى يبدلهما بالخمول والذل ، وكذلك من تعود جمع الدنيا واحتكارها ، فلا بد من الزهد فيها والخروج عنها ، وكذلك سائر العوائد النفسانية ، والحظوظ الجسمانية ، فمن جاور قوماً منهمكين فيها ، ولم يجد من يساعده على خرقها ، فليهاجر منها ، ويقال له : فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ، ولا يلتفت منكم أحد إلى الرجوع ، إلا بعد الرسوخ والتمكين في معرفة الحق تعالى ، ولميض حيث يجد من ينهض معه إلى الله في نقل عوائدها وعوائقها . وقوله تعالى : { وجاء أهل المدينة يستبشرون } : هذه عادة أهل الغفلة ، إن جاءهم من يجدون فيه موافقة هواهم ، هرعوا إليه مستبشرين ، وإن جاء من ينصحهم ويأمرهم بالخروج عن أهوائهم أدبروا عنه ، ومقتوه ، وربما أخرجوه من بلدهم ، قال تعالى في أمثالهم : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } . وبالله التوفيق ثم ذكر قصة شعيب عليه السلام