Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 66-67)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : سقى وأسقى : لغتان ، على المشهور . والضمير في { بطونه } : للأنعام ، وذكِّره باعتبار ما ذكر ، كقوله : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عَبَسَ : 11 ، 12 ] ، أو : باعتبار الجنس ، وعَدَّه سيبويه في المفردات المبنية على : أفعال ، كأخلاق وأكباش ، فهو ، عنده ، اسم جمع ، كقوم ورهط ، فلفظه مفرد ومعناه جمع ، فذكَّره هنا مراعاة للفظه ، وأنثه ، في سورة المؤمنين مراعاة لمعناه . ومن قال : إنه جمع " نعَم " ، جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها . و { من } في قوله : " مما " للتبعيض ، و { من بين فرث } لابتداء الغاية ، و { من ثمرات } : يتعلق بمحذوف ، أي : ونسقيكم من ثمرات النخيل ، يدل عليه { نُسقيكم } الأول . و { تتخذون } : استئناف لبيان الإسقاء ، أو يكون { ثمرات } : عطفًا على { مما في بطونه } ، أو يتعلق { من ثمرات } بتتخذون ، أي : تتخذون من ثمرات النخيل سَكَرًا . وكرر { منه } للتأكيد ، أو يكون { تتخذون } : صفة لمحذوف ، أي : شيء تتخذون منه سكرًا . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإنّ لكم } أيها الناس ، { في الأنعام } وهي : الإبل والبقر والغنم ، { لعبرةً } ظاهرة تدل على كمال قدرته ، وعجائب حكمته ، وهي أنا { نُّسْقيكم مما في بطونه } أي : بعض ما استقر في بطونه من الغذاء ، { من بين فَرْثٍ } وهو ما في الكرش من القذر ، { ودمٍ } وهو ما تولد من لباب الغذاء ، { لبنًا خالصًا } من روائح الفرث ، صافيًا من لون الدم . والمعنى : أن الله يخلق اللبن متوسطًا بين الفرث والدم يكتنِفَانِه ، ومع ذلك فلا يُغير له لونًا ولا طعمًا ولا رائحة . وعن ابن عباس : " إن البهيمة إذا اعتلفت ، وانطبخ العلف في كرشها ، كان أسفله فرثًا ، وأوسطه لبنًا ، وأعلاه دمًا . ثم وصفه بقوله : { سائغًا للشاربين } سهل المرور في حلقهم ، حتى قيل : لم يغصَّ أحدٌ قَط من اللبن . ورُوِيَ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . { و } نُسقيكم ، أيضًا ، { من ثمرات النخيلِ والأعنابِ } أي : من عصيرهما . ثم بيَّن كيفية الإسقاء فقال : { تتخذون منه } أي : مما ذكر { سَكَرًا } يعني : الخمر ، سميت بالمصدر ، ونزل قبل تحريم الخمر ، فهي منسوخة بالتحريم . وقيل : هي على وجه المنة بالمنفعة التي في الخمر ، ولا تعرُّض فيها لتحليل الخمر ولا تحريم ، وهذا هو الصحيح . وفي دعوى النسخ نظر لأن النسخ إنما يكون في الأحكام المشروعة المقررة ، وهنا ليس كذلك ، إنما فيه امتنان واعتبار فقط . { و } تتخذون من ثمراتها { رزقًا حسنًا } كالتمر ، والزبيب ، والدبْس - وهو ما يسيل من الرطب - ، والخلُّ ، والربُّ ، وقيل : السَّكَرُ : المائع من هاتين الشجرتين كالخل ، والرُّب ، والرزق الحسن : العنب والتمر . { إنَّ في ذلك لآية } دالة على كمال قدرته تعالى ، { لقوم يعقلون } يستعملون عقولهم بالتأمل ، والنظر في الآيات . الإشارة : كما استخرج الحق ، جلّ جلاله ، من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين ، استخرج مذهب أهل السنة ، القائلين بالكسب ، من بين مذهب الجبرية ومذهب المعتزلة ، بين قوم أفرطوا ، وقوم فرطوا . واستخرج أيضًا مذهب الصوفية - أعني : المحققين منهم - من بين الواقفين مع ظاهر الشريعة والمتمسكين بمجرد الحقيقة ، بين قوم تفسقوا وقوم تزندقوا ، بين قوم وقفوا مع عالم الحكمة ، وقوم وقفوا مع شهود القدرة من غير حكمة ، وهو ، إن لم يكن عن غلبة سُكْرٍ ، كُفْرٌ . واستخرج ، أيضًا ، مذهب أهل التربية من بين سلوك محض وجذب محض ، فاهل السلوك المحض محجوبون عن الله ، وأهل الجذب المحض غائبون عن طريق الله ، وأهل التربية برزخ بين بحرين ، الجذب في بواطنهم ، والسلوك على ظواهرهم . ولا يعرف هذا إلا من شرب مشربهم ، قد أخذوا من ثمرات نخيل الشرائع وأعناب الحقائق ، سَكَرًا في قلوبهم ، بشهود محبوبهم ، ورزقًا حسنًا معرفة في أسرارهم ، وعبودية في ظواهرهم ، فصاروا جامعين بين جذب الحقائق وسلوك الشرائع ، كل واحد في محله . وبالله التوفيق . ثمَّ ذكر دليلاً آخر فقال : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ … }