Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 68-69)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { أن اتخذي } : مفسرة للوحي الذي أوحي إلى النحل ، أو مصدرية ، أي : بأن اتخذي . و { من } : للتبعيض في الثلاثة مواضع ، { ثم كُلِي } : عطف على { اتخذي } . و { من } : للتبعيض لأنها لا تأكل من جميع الشجر ، وقيل : من كل الثمرات التي تشتهيها ، فتكون للبيان . و { ذُللاً } : حال من السبل ، أو من الضمير في { اسلكي } . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأوْحَى ربك إلى النحل } أي : ألهمها ، وقذف في قلوبها ذلك . والوحي على ثلاثة أقسام : وحْيُ إلهام ، ووحيُ منام ووحْيُ أحكام . وقال الراغب : أصل الوحي : الإشارة السريعة ، إما بالكلام رمزًا ، وإما بصوت مجرد عن التركيب ، أو بإشارة ببعض الجوارح ، والكناية . ويقال للكلمة الإلهية التي تُلقى إلى الأنبياء : وحي ، وذلك أضْرُبٌ إما برسول مشاهَد ، وإما بسماع كلام من غير معاينة ، كسماع موسى كلام الله ، وإما بإلقاءٍ في الروع ، وإما بإلهام ، نحو : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ } [ القَصَص : 7 ] ، وإما تسخير ، كقوله : { وأوحى ربك إلى النحل } ، أو بمنام ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " انقطع الوحي ، وبقي المبشرات رؤيا المؤمن " ثم بيَّن ما أوحي إليها فقال : { أنِ اتخذي } ، أو بأن اتخذي { من الجبال بيوتًا } تأوين إليها ، كالكهوف ونحوها ، { ومن الشجر } بيوتًا ، كالأجْبَاح ونحوها ، { ومما يَعرِشُون } أي : يهيئون ، أو يبنون لك الناس من الأماكن ، وإلا لم تأو إليها . وذكرها بحرف التبعيض لأنها لا تُبنى في كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش من كرْم أو سقف ، ولا في كل مكان منها . وإنما سمي ما تبنيه ، لتتعسل فيه ، بيتًا تشبيهًا ببناء الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسْمة ، التي لا يقوى عليها حُذَّاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة . ولعل ذكره : للتنبيه على ذلك . قاله البيضاوي . قلت : وليس للنحل فعل في الحقيقة ، وإنما هو صنع العليم الحكيم في مظاهر النحل . ثم قال لها : { ثم كُلِي من كل الثمرات } التي تشتهيها ، حلوها ومرها . قيل : إنها ترعى من جميع النوار إلا الدفلة . { فاسْلُكي } أي : ادخلي { سُبل ربك } طُرقه في طلب المرعى ، أو : فاسلكي راجعة إلى بيوتك ، سبلَ ربك ، لا تتوعر عليك ولا تلتبس . وأضافها إليه لأنها خلقه وملْكه . { ذُللاً } : مطيعة منقادة لما يراد منك ، أو اسلكي طرقَه مذللة مسخرة لكِ ، فلا تعسر عليك وإن توعرت ، ولا تضل عن العْود منها وإن بَعُدت . قال مجاهد : لم يتوعَّر على النحل قط طريق . { يخرجُ من بطونها شرابٌ } وهو العسل ، عَدل عن خطاب النحل إلى خطاب الناس : لأنه محل الإنعام عليهم ، والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم . وسماه شرابًا لأنه مما يشرب . وظاهر الآية أن العسل يخرج من بطون النحل ، وهو ظاهر كلام سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تحقيره للدنيا ، قال : أشرف لباس ابن آدم فيها نفثة دود ، وأشرف شراب فيها رجيع نحلة - أو قيء نحلة - ، وأشرف لذة فيها مَبَال في مبال . وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل . قاله ابن عطية . قلت : والذي ألفيناه ، ممن يتعاطاهم ، أنه يخرج من دبرهم . وقوله : { مختلفٌ ألوانه } أي : أبيض ، وأحمر ، وأسود ، وأصفر ، بحسب اختلاف سن النحل ، ومراعيها . وقد يختلف طعمه ورائحته باختلاف مرعاه . ومنه قول عائشة للنبي - عليه الصلاة والسلام - : جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ وهو نبت مُنتن الرائحة ، شُبهت رائحته برائحة المغافير . ثم قال تعالى : { فيه شفاء للناس } إما بنفسه ، كما في الأمراض البلغمية ، أو مع غيره ، كما في سائر الأمراض ، إذ قلما ما يكون معجون إلا والعسل جزء منه . قاله البيضاوي . قال السيوطي : قيل : لبعضها ، كما دل عليه تنكير شفاء ، أو لكلها بضميمةٍ إلى غيره - أقول : وبدونها ، بنية - وقد أمر به صلى الله عليه وسلم من استطلق بطنه ، رواه الشيخان . هـ . قال ابن جزي : لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل كالمعاجن ، والأشربة النافعة من الأمراض . وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء ، فكأنه أخذه من العموم . وعلى ذلك يدل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن رجلاً جاء إليه فقال : أَخي يَشْتَكِي بَطْنَهُ ، فقال : " اسْقِهِ عَسَلاً ، فَذَهَب ثُمَ رَجَع ، فقال : قَدْ سَقَيْتُهُ فَما نَفعَ ، قال : " فاذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلاً ، فَقَدً صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ " ، فَسَقَاهُ فشفاه الله عزّ وجلّ " . { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر ، عَلِمَ ، قطعًا ، أنه لا بدّ له من قادر مدبر حكيم ، يلهمها ذلك ويحملها عليه ، وهو الحق تعالى . الإشارة : إنما كان العسل فيه شفاء للناس لأن النحل ترعى من جميع العشب ، فتأخذ خواص منافعها . وكذلك العارف الكامل يأخذ النصيب من كل شيء ، ويعرف الله في كل شيء ، فإذا كان بهذه المنزلة ، كان فيه شفاء للقلوب ، كل من صحبه ، بصدق ومحبة ، شفاه الله ، وكل من رآه ، بتعظيم وصدق ، أحياه الله . وقد قالوا في صفة العارف : هو الذي يأخذ النصيب من كل شيء ، ولا يأخذ النصيب منه شيئًا ، يصفو به كدر كل شيء ، ولا يكدر صفوه شيء ، قد شغله واحد عن كل شيء ، ولم يشغله عن الواحد شيء … إلى غير ذلك من نعوته . وقال الورتجبي : قال أبو بكر الوراق : النحلة لَمَّا تبعت الأمر ، وسلكت سبيلها على ما أمرت به ، جعل لعابها شفاء للناس ، كذلك المؤمن ، إذا اتبع الأمر ، وحفظ السر ، وأقبل على مولاه ، جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق ، ومن نظر إليه اعتبر ، ومن سمع كلامه اتعظ ، ومن جالسه سعد . هـ . ثمَّ ذكر دلالة أخرى على قدرته وهي الإحياء والإماتة : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ … }