Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 79-83)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { مسخرات } : حال من { الطير } ، و { سكنًا } : مصدر وُصف به ، أي : شيئًا سكنًا ، أو : فَعَلٌ بمعنى مفعول . و { أثاثًا } : مفعول بمحذوف ، أي : وجعل من أوبارها أثاثًا . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم يروا } ، وفي قراءة : { ألم تروا } بتوجيه الخطاب لعامة الناس ، { إلى الطير مسخراتٍ } : مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية ، { في جو السماء } في الهواء المتباعد من الأرض . { ما يُمسكهنَّ } فيه { إلا اللهُ } فإن ثِقلَ جسدها يقتضي سقوطها ، ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها ، { إنَّ في } تسخيره { ذلك } لها { لآيات } لعبرًا ودلالة على قدرته تعالى إذ لا فاعل سواه فإنَّ إمساك الطيران في الهواء هو على خلاف طباعها ، لولا أن القدرة تحملها ، ففيه آيات { لقوم يؤمنون } لأنهم هم المنتفعون بها . { والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا } : موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم ، كالبيوت المتخذة من الحجر والمدَر . و " مِنْ " للبيان ، أي : جعل لكم سكنًا ، أي : موضعًا تسكنونه ، وهو بيوتكم ، { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا } ، هي القباب المتخذة من الأدم ، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبَر والصوف والشعر ، فإنها ، من حيث إنها نابتة على جلودها ، كأنها من جلودها ، { تستخفونها } أي : تجدونها خفيفة ، يخف عليكم حملها وثقلها { يوم ظعنكم } أي : سفركم ، وفيه لغتان : الفتح والسكون ، { ويوم إقامتكم } : حضوركم ، أو نزولكم ، { و } جعل { من أصوافها } أي : الغنم ، { وأوبارها } أي : الإبل ، { وأشعارها } أي : المعز ، { أثاثًا } : متاعًا لبيوتكم كالبسُط والأكسية ، { ومتاعًا } تمتعون به { إلى حينٍ } إلى مدة من الزمان ، فإنها ، لصلابتها ، تبقى مدة مديدة ، أو : إلى مماتكم ، أو : إلى أن تقضوا منها أوطاركم ، أو : إلى أن تبلى . { والله جعل لكم مما خلق } من الشجر والجبال والأبنية ، وغيرها ، { ظِلالاً } تتقون بها حر الشمس ، { وجعل لكم من الجبال أكنانًا } جمع : كَن ، ما تكنون ، أي : تستترون به من الحر والبرد ، كالكهوف والغيران والبيوت المجوفة فيها ، { وجعل لكم سرابيل } جمع : سربال ثيابًا من الصوف والكتان والقطن وغيرها ، { تقيكم الحرَّ } والبرد ، وخص الحر بالذكر ، اكتفاء بأحد الضدين ، أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم . { وسرابيل تقيكم بأسكم } : حربكم ، كالطعن والضرب . وهي : الدروع ، وتسمى : الجواشن ، جمع جَوشن ، وهو الدرع ، { كذلك } كإتمام هذه النعم بخلق هذه الأشياء المتقدمة ، { يُتم نعمتَه عليكم } في الدنيا بخلق ما تحتاجون إليه ، { لعلكم } يا أهل مكة { تُسْلمون } أي : تنظرون في نعمه ، فتؤمنون به ، أو تنقادون لحكمه . وفي قراءة : بفتح التاء ، أي : تسلمون من العذاب بالإيمان ، أو تنظرون فيها ، فتوحدون ، وتَسلمون من الشرك ، أو من الجراح بلبس الدروع . { فإِن تولوا } : أعرضوا ، ولم يقبلوا منك ، أو لم يُسلموا . { فإِنما عليك } يا محمد { البلاغُ المبين } أي : الإبلاغ البين ، فلا يضرك إعْراضهم حيث بلَّغْتَهُمْ . { يعرفون نِعْمَتَ الله } أي : يُقرون بأنها من عنده ، { ثم يُنكرونها } بإشراكهم وعبادتهم غيرَ المنعِم بها ، وبقولهم : إنها بشفاعة آلهتنا ، أو بسبب كذا ، أو بإعراضهم عن حقوقها . وقيل : نعمة الله : نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، عرفوها بالمعجزات ، ثم أنكروها عنادًا . { وأكثرهم الكافرون } الجاحدون عنادًا . وذكر الأكثر إمَّا لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله ، أو لتفريطه في النظر ، أو لم تقم عليه الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف ، أو كان فيهم من داخله الإسلام ، ومن أسلم بعد ذلك . وإما لأنه أقام الأكثر مقام الكل ، كقوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النّحل : 75 ] . قال بعضه البيضاوي . الإشارة : قال الورتجبي : بيَّن الحقُّ تعالى قدرته في إمساكه أطيار الأرواح في هواء الملكوت وسماء الجبروت ، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان ، على سرادق مجده وبساط كبريائه ، مسخرات بأنوار جذبه ، ما يمسكهن إلا الله ، بكشف جماله لها ، أمسكها به عن قهر سلطانه وسُبحات جلاله ، حتى لا تفنى - أي : تتلاشى - في بهائه . هـ . والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا - وهي العبودية - ، تسكنون فيها وتأوون إليها ، بعد طيران الفكرة في جو أنوار الملكوت ، وميادين أسرار الجبروت . أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم ، فتصير مُعَشَّشَ أرواحكم ، إليها تأوون ، وفيها تسكنون . وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم ، وهي المقامات التي يقطعها المريد ، ينزل فيها ويرتحل عنها . وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها ، تمتعًا بشهود أنوار مكونها فيها ، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة ، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة ، ويظهر المعنى ويبطن الحس . والله جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالاً ، والظلال لا وجود لها من ذاتها ، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق ، وإنما هي ظلال . والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة . وجعل لكم من جبال العقل أكنانًا ، تستترون بنوره من جذب الاصطلام بمواجهة أنوار الحضرة . وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حَرَّ الحقيقة ، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار ، فإنَّ من عرف الله حقيقة هان عليه ما يُواجَهُ به من المكاره . وفي هذا المعنى أنشد بعضهم : @ نِلْبِسٍ عمَامْ مِنِ الماءْ وِنْشِدِّهَا شَدِّ مَائِلْ وِنِلْبِسْ مِنِ الثَّلْجِ بُرْنُسْ إِذا حِمِتِ الْقَوائِلْ وِنِشْعِلْ مِنِ الرِّيحْ قَنْدِيلْ وِمْنِ الضَّبْابْ فَتَائِل @@ والمراد بعمامة الماء : كناية عن الحقيقة لأنها كالماء لحياة النفوس . وميل شدها : كناية عن قوتها ، وتكبيرها على الشريعة . والمراد ببرنس الثلج : برد التشريع ، فإذا قويت الحقيقة ، وخاف من الاحتراق ، نزل إلى برد التشريع . والمراد بالريح : هبوب نسيم الواردات الإلهية ، يشعل منها قنديل الفكرة - التي هي سراج القلب - ، فإذا ذهبت فلا إضاءة له ، وهذه حالة السائر ، وأما الواصل فقد سكن النور في قلبه ، فلا يحتاج إلى سراجٍ غيره تعالى . وفي ذلك يقول الشاعر : @ كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلى سُرُجِ وَجْهُكَ المَحْمُودُ حُجَّتُنَا يوم يأْتِي الناس بالحجج @@ والمراد بالضباب : وجود السِّوى ، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة . والله تعالى أعلم . وباقي الآية ظاهر إشارته . ثم ذكر وعيد من أعرض عن هذه النعم ، التي هي دلائل قدرته .