Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 91-96)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { وقد جعلتم } : حال ، و { أنكاثًا } : حال من الغزل ، وهو : جمع نِكْث - بالكسر - بمعنى منكوث ، أي : منقوض . و { أن تكون } : مفعول من أجله ، و { تتخذون } : جملة حالية من ضمير " تكونوا " . يقول الحقّ جلّ جلالة : { وأوفوا بعهد الله } كالبيعة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وللأمراء ، والأيمان ، والنذور ، وغيرها ، { إذا عاهدتم } الله على شيء من ذلك ، { ولا تَنقضوا الأيمان } أيمان البيعة ، أو مطلق الأيمان ، { بعد توكيدها } بعد توثيقها بذكر الله ، أو صفته ، أو أسمائه ، { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } شاهدًا ورقيبًا ، بتلك البيعة فإن الكفيل مراع لحال المكفول رقيب عليه ، { إن الله يعلم ما تفعلون } في نقض الأيمان والعهود . وهو تهديد لمن ينقض العهد ، وهذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير ، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ، كما في الحديث . { ولا تكونوا كالتي نَقَضَتْ غزلها } : أفسدته { من بعد قوة } أي : إبرام وإحكام { أنكاثًا } أي : طاقات ، أي : صيرته طاقات كما كان قبل الغزل ، بحيث حلت إحكامه وإبرامه ، حتى صار كما كان ، والمراد : تشبيه الناقض بمَن هذا شأنه ، وقيل : هي " ريطة بنت سعد القرشية " فإنها كانت خرقاء - أي : حمقاء - تغزل طول يومها ثم تنقضه ، فكانت العرب تضرب به المثل لمن قال ولم يُوف ، أو حلف ولم يَبر في يمينه . { تتخذون أيمانكم دخلا بينكم } أي : لا تكونوا متشبهين بامرأة خرقاء ، متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم . وأصل الدخل : ما يدخل الشيء ، ولم يكن منه ، يقال : فيه الدخل والدغل ، وهو قصد الخديعة . تفعلون ذلك النقض لأجل { أن تكون أُمةٌ هي أربى من أمةٍ } : بأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً ، من جماعة أخرى ، فتنقضون عهد الأولى لأجل الثانية لكثرتها . نزلت في العرب ، كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى ، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها ، غدرت الأولى ، وحالفت الثانية . وقيل : الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين ، فحذر من بايع على الإسلام أن ينقضه لما يرى من قوة كفار قريش . { إنما يبلوكم } : يختبركم { اللهُ به } بما أمر من الوفاء بالعهد لينظر المطيع منكم والعاصي . أو : بكون أمة هي أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله ، أم تَغْتَرُّونَ بكثرة قريش وشوكتهم ، وقلة المؤمنين وضعفهم ؟ { وليُبَيننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } في الدنيا حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب . { ولو شاء اللهُ لجعلكم أمةً واحدة } أهل دين واحد متفقين على الإسلام ، { ولكن يُضل من يشاء } بعدله ، { ويهدي من يشاء } بفضله ، { ولتُسألنَّ يوم القيامة } سؤال تبكيت ومجازاة ، { عما كنتم تعملون } في الدنيا لتُجازوا عليه . { ولا تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بينكم } ، كرره تأكيدًا مبالغة في قبح المنهي عنه من نقض العهود ، { فتزِلَّ قدمٌ } عن محجة الإسلام { بعد ثُبوتها } : استقامتها عليه ، والمراد : أقدامهم ، وإنما وُحد ونُكِّر للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ { وتذوقوا السُّوءَ } : العذاب في الدنيا { بما صددتم عن سبيل الله } أي : بصدكم عن الوفاء بعهد الله ، أو بصدكم غيركم عنه فإن من نقض البيعة ، وارتد ، جعل ذلك سُنَّة لغيره ، { ولكم عذابٌ عظيم } في الآخرة . { ولا تشتروا بعهد الله } أي : لا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذكم { ثمنًا قليلاً } : عرضًا يسيرًا من الدنيا ، بأن تنقضوا العهد لأجله . قيل : هو ما كانت قريش يعدونه لضعفاء المسلمين ، ويشترطون لهم على الارتداد ، { إِنَّما عند الله } من النصر والعز ، وأخذ الغنائم في الدنيا ، والثواب الجزيل في الآخرة ، { هو خيرٌ لكم } مما يعدونكم ، { إن كنتم تعلمون } ذلك فلا تنقضوا ، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز . { ما عندكم } من أعْرَاضِ الدنيا { يَنْفَذُ } ينقضي ويفنى ، { وما عند الله } من خزائن رحمته ، وجزيل نعمته { باقٍ } لا يفنى ، وهو تعليل للنهي عن نقض العهد طمعًا في العَرَضِ الفاني ، { وليجزين الذين صبروا } على الوفاء بالعهود ، أو على الفاقات وأذى الكفار ، أو مشاق التكاليف ، { أجرهم بأحسنِ ما كانوا يعملون } بما يرجح فعله من أعمالهم ، كالواجبات والمندوبات ، أو بجزاء أحسن من أعمالهم . وبالله التوفيق . الإشارة : الوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، من شأن الصالحين الأبرار ، كالعباد والزهاد ، والعلماء الأخيار . وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شيء ، ولا يعقدون على شيء ، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين ، ليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار . يتلونون مع المقادير كيفما تلونت ، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم . قال تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] ، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون فمن عقد معهم عقدًا ، أو أخذ منهم عهدًا ، فلا يعول على شيء من ذلك إذ ليست أنفسهم بيدهم ، بل هي بيد مولاهم . وليس ذلك نقصًا في حقهم ، بل هو كمال لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم ، ونقض تدبيرهم واختيارهم . ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم ، وإلاَّ فحسبه التسليم ، وطرح الميزان عنهم ، إن أراد الانتفاع بهم . والله تعالى أعلم . وهذه الحالة التي اقامهم الحق تعالى فيها هي الحياة الطيبة