Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 105-109)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : تقديم المعمول ، هو { بالحق } : يُؤذن بالحصر . و { قرآنًا } : مفعول بمحذوف يُفسره ما بعده . يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن القرآن : { وبالحقِّ أنزلناه وبالحق نَزَل } أي : ما أنزلنا القرآن إلا ملتبسًا بالحق ، المقتضي لإنزاله ، وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه من الأمر والنهي ، والمعنى : أنزلناه حقًا مشتملاً على الحق . أو : ما أنزلناه من السماء إلا محفوظًا بالرصَد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظًا من تخليط الشياطين . ولعل المراد : عدم اعتراء البطلان له أولاً وآخرًا . { وما أرسلناك إِلا مبشرًا } للمطيعين بالثواب ، { ونذيرًا } للعاصين بالعقاب ، وهو تحقيق لحقية بعثه - عليه الصلاة والسلام - إثر تحقيق حقية إنزال القرآن . { وقرآنًا فَرَقْنَاهُ } أي : أنزلناه مفرقًا منجمًا في عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين . قال القشيري : فرَق القرآن ليهون حفظه ، ويكثر تردد الرسول عليه من ربه ، وليكون نزوله في كل وقت ، وفي كل حادثة وواقعة دليلاً على أنه ليس مما أعانه عليه غيره . هـ . { لتقرأه على الناس على مُكْثٍ } على مهلٍ وتؤدة وتثبتٍ فإنه أيسر للحفظ ، وأعون على الفهم ، { ونزلناه تنزيلاً } على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، والحوادث الواقعة . { قل } للذين كفروا : { آمِنُوا به أو لا تُؤمنوا } ، فإنَّ إيمانكم لا يزيده كمالاً ، وامتناعكم منه لا يزيده نقصانًا . أو : أُمِرَ باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم ، كأنه يقول : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا لأنكم لستم بحجة ، وإنما الحجة لأهل العلم ، وهم : المؤمنون من أهل الكتاب ، الذين أشار إليهم بقوله : { إِن الذين أُوتوا العلم من قَبْلِهِ } أي : العلماء الذين قرأوا الكتب السالفة من قبل تنزيله ، وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة ، وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل ، والمحق والمبطل ، { إِذا يُتلى عليهم } القرآن { يَخرُّون للأذقانِ } أي : يسقطون على وجوههم { سُجَّدًا } تعظيمًا لأمر الله ، أو شكرًا لإنجازه ما وعد في تلك الكتب من نعتك ، وإظهارك ، وإنزال القرآن عليك . والأذقان : جمع ذقن ، وهو : أسفل الوجه حيث اللحية . وخصها بالذكر لأنها أول ما تلقى في الأرض من وجه الساجد . والجملة : تعليل لما قبلها من قوله : { آمِنُوا به أو لا تؤمنوا } من عدم المبالاة . والمعنى : إن لم تؤمنوا فقد آمن منْ هو أعلى منكم وأحسن إيمانًا منكم . ويجوز أن يكون تعليلاً لقُل ، على سبيل التسلية للرسول - عليه الصلاة والسلام - ، كأنه يقول : تسلّ بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ، ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم . { ويقولون } في سجودهم : { سبحان ربِّنا } عن خلْف وعده { إِن كان وعْدُ ربنا لمفعولاً } أي : إن الأمر والشأن كان وعد ربنا مفعولاً لا محالة ، { ويَخِرُّون للأذقانِ } كرره لاختلاف السبب ، فإن الأول : لتعظيم الله وشكر إنجاز وعده . والثاني : لِمَا أثر فيهم من مواعظ القرآن ، { يَبْكُونَ } : حال ، أي : حال كونهم باكين من خشية الله ، { ويزيدهم } القرآنُ { خشوعًا } ، كما يزيدهم علمًا بالله تعالى . الإشارة : وبالحق أنزلناه ، أي بالتعريف بأسرار الربوبية ، وبالحق نزل لتعليم آداب العبودية . أو : بالحق أنزلناه ، يعني : علم الحقيقة ، وبالحق نزل علم الشريعة والطريقة . وما أرسلناك إلا مبشرًا لأهل الإخلاص بالوصول والاختصاص ، ونذيرًا لأهل الخوض بالطرد والبعد . وقرآنا فرقناه ، لتقرأه نيابة عنا ، كي يسمعوه منا بلا واسطة ، عند فناء الرسوم والأشكال ، ونزّلناه ، للتعريف بنا تنزيلاً ، قل آمنوا به لتدخلوا حضرتنا ، أو لا تؤمنوا ، فإن أهل العلم بنا قائمون بحقه ، خاشعون عند تلاوته ، متنعمون بشهودنا عند سماعه منا . وبالله التوفيق . ولما كان القرآن مشتملاً على أسماء كثيرة من أسماء الله الحسنى ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه : " يا الله ، يا رحمن " ، قالوا : إنه ينهانا عن عبادة إلٰهين ، وهو يدعو إلهًا آخر . وقالت اليهود : إنك لتُقل ذكر الرحمن ، وقد أكثر الله تعالى ذكره في التوراة ، فأنزل الله ردًا على الفريقين . { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ … } قلت : " أي " شرطية ، و { ما } : زائدة تأكيدًا لما في " أيًّا " من الإبهام ، وتقدير المضاف : أيَّ الأسماء تدعو به فأنت مُصيب . يقول الحقّ جلّ جلاله : { قُلْ } يا ممد للمؤمنين : { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } نادوه بأيهما شئتم ، أو سموه بأيهما أردتم . والمراد : إما التسوية بين اللفظين فإنهما عبارتان عن ذاتِ واحد ، وإن اختلف الاعتبار ، والتوحيد إنما هو للذات ، الذي هو المعبود بالحق ، وإما أنهما سيان في حسن الإطلاق والوصول إلى المقصود ، فلذلك قال : { أَيَّا مَا تدعو } أيَّ اسم تدعو به تصب ، { فله الأسماءُ الحسنى } فيكون الجواب محذوفًا ، دلَّ عليه الكلام . وقيل : التقدير أيًّا ما تدعو به فهو حسن ، فوضع موضعه : { فله الأسماء الحسنى } للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه إذ حسن جميع الأسماء يستدعي حسن ذَيْنِك الاسمين ، وكونها حسنى لدلالتها على صفات الكمال من الجلال والجمال إذ كلها راجعة إلى حسن ذاتها ، وكمالها جمالاً وجلالاً . قال في شرح المواقف : ورد في الصحيحين : " إنَّ للهِ تِسْعَةً وتَسْعِينَ اسْمًا ، مائةً إلاَّ وَاحِدًا ، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ " ، وليس فيها تعيين تلك الأسماء . لكن الترمذي والبيهقي عيَّناها . وهي الطريقة المشهورة ، ورواية الترمذي : " الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ المصور ، الغفار القهار ، الوهاب الرزاق ، الفتاح العليم ، القابض الباسط ، الخافض الرافع ، المعز المذل ، السميع البصير ، الحكم العدل ، اللطيف الخبير ، الحليم العظيم ، الغفور الشكور ، العلي الكبير ، الحفيظ المقيت ، الحسيب الجليل ، الكريم الرقيب ، المجيب ، الواسع الحكيم ، الودود المجيد ، الباعث الشهيد ، الحق الوكيل ، القوي المتين ، الولي الحميد ، المحصي المبدئ المعيد ، المحيي المميت ، الحي القيوم ، الواجد الماجد ، الواحد ، الأحد الصمد ، القادر المقتدر ، المقدم المؤخر ، الأول الآخر ، الظاهر الباطن ، الوالي المتعالي ، البر التواب ، المنتقم العفو الرؤوف ، مالك الملك ذو الجلال والإكرام ، المقسط الجامع ، الغني المغني المانع ، الضار النافع ، النور الهادي ، البديع الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور " . وقد ورد التوقيف بغيرها ، أمَّا في القرآن فكالمولى ، والنصير والغالب ، والقاهر والقريب ، والرب والأعلى ، والناصر والأكرم ، وأحسن الخالقين ، وأرحم الراحمين ، وذي الطول ، وذي القوة ، وذي المعارج ، وغير ذلك . وأما في الحديث ، فكالمنان ، والحنان ، وقد ورد في رواية ابن ماجة أسماء ليست في الرواية المشهورة كالقائم ، والقديم ، والوتر ، والشديد ، والكافي ، وغيرها . وإحصاؤها : إما حفظها لأنه إما يحصل بتكرار مجموعها وتعدادها مرارًا ، وإما ضبطها حصرًا وعلمًا وإيمانًا وقيامًا بحقوقها ، وإما تعلقًا وتخلقًا وتحققًا . وقد ذكرنا في شرح الفاتحة الكبير كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها . وفي ابن حجر : أن أسماء الله مائة ، استأثر الله بواحد ، وهو الاسم الأعظم ، فلم يُطلع عليه أحدًا ، فكأنه قيل : مائة لكن واحد منها عند الله . وقال غيره : ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيًا ، بل هو الجلالة . وممن جزم بذلك البيهقي ، فقال : الأسماء الحسنى مائة ، على عدد درجات الجنة ، والذي يكمل المائة : " الله " ، ويؤيده قوله تعالى : { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَى } [ الأعرَاف : 180 ] . فالتسعة والتسعون لله فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة . هـ . قلت : ولعله ذكر اسمًا آخر يكمل التسعة والتسعين . وإلا فهو مذكور في الرواية المتقدمة من التسعة والتسعين . والله تعالى أعلم . الإشارة : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } ، قال الورتجبي : إن الله سبحانه دعا عباده إلى معرفة الاسمين الخاصين ، الذين فيهما أسرار جميع الأسماء والصفات والذات ، والنعوت والأفعال فالله اسمُهُ ، وهو اسمُ عَيْنِ جَمْعِ الجَمعِ ، والرحمن اسم عين الجمع فالرحمن مندرج تحت اسمه : " الله " لأَنه عين الكل ، وإذا قلت : الله ذكرت عين الكل . ثم قال : وإذا قال " الله " يفنى الكل ، وإذا قال : " الرحمن " يبقى الكل ، من حيث الاتصاف والاتحاد ، فالاتصاف بالرحمانية يكون ، والاتحاد بالألوهية يكون . ثم قال : عن الأستاذ : من عظيم نعمه سبحانه على أوليائه : أنه يُنزههم بأسرارهم في رياض ذكره بتعداد أسمائه الحسنى ، فيتنقلون من روضة إلى روضة ، ومن مأنس إلى مأنس ، ويقال : الأغنياء تنزههم في بساتينهم ، وتنزههم في منابت رياحِينهم . والفقراء تنزههم في مشاهد تسبيحهم ، ويستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله . هـ . قلت : والعارفون تنزههم في مشاهدة أسرار محبوبهم ، وما يكشف لهم من روض جماله وجلاله . وبالله التوفيق . ثمَّ أمر باخفاء قراءته عن المشركين