Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 4-8)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقضينا إلى بني إِسرائيل } أي : أخبرناهم وأوحينا إليهم { في الكتاب } التوراة ، وقلنا : والله { لتُفسدنَّ في الأرض مرتين } الخ . أو : قضينا عليهم { في الكتاب } اللوح المحفوظ ، { لتُفسدنَّ في الأرض مرتين } الخ . أو : قضينا عليهم { في الكتاب } : اللوح المحفوظ ، { لتُفسدُنَّ في الأرض مرتين } أي : إفسادتين ، أُولاهُمَا : مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء ، وقيل : أرمياء . وثانيتهما : قتل زكريا ويحيى ، وقَصْدُ قتل عيسى عليه السلام ، { ولتَعلُنَّ عُلوًّا كبيرًا } ولتستكبرن عن طاعة الله ، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوًا كبيرًا . { فإِذا جاء وعدُ } عقاب { أُولاهما } أي : أول مرتي الإفساد بأن أفسدوا في الأرض المرة الأولى { بعثنا عليكم عبادًا لنا } بختنصر وجنوده { أُولي بأس شديد } ذوي قوة وبطش في الحرب شديد ، { فجاسوا } فترددوا لطلبكم { خلال الديار } وسطه للقتل أو الغارة ، فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم ، وحرقوا التوراة ، وخربوا المسجد . وفي التذكرة للقرطبي : أنه سلط عليهم في المرة الأولى بخُتنصر ، فسباهم ، ونقل ذخائر بيت المقدس على سبعين ألف عَجَلَة ، وبقوا في يده مائة سنة . ثم رحمهم الله تعالى وأنقذهم من يده ، على يد ملك من ملوك فارس ، ثم عصوا ، فسلط عليهم ملك الروم قيصر . هـ . قال تعالى : { وكان وعدًا مفعولاً } أي : وكان وعد عقابهم وعدًا مقضيًا لا بدّ أن يُفعل . { ثم رددنا لكم الكرّة } أي : الدولة والغلبة { عليهم } أي : على الذين بُعثوا عليكم ، فرجع المُلك إلى بني إسرائيل ، واستنقذوا أسراهم ، فقيل : على يد " بهْمَن بن إسفنديار " ملك فارس ، فاستنقذهم ، ورد أسراهم إلى الشام ، وملَّكَ دَانْيال عليهم ، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر ، وقيل : على يد داود عليه السلام حين قتل جالوت . قال تعالى : { وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثرَ نفيرًا } أي : عددًا مما كنتم . والنفير : من ينفر مع الرجل من قومه ، وقيل : جمع نَفر ، وهم : المجتمعون للذهاب إلى الغزو . ثم قال تعالى لهم : { إِنْ أحسنتم } بفعل الطاعة والعمل الصالح ، { أَحْسَنْتُمْ لأنفسكم } لأن ثوابه لها ، { وإِن أسأتم فلها } فإنَّ وبالها عليها . وذكر باللام للازدواج . { فإِذا جاء وعدُ الآخرة } أي : وعد عقوبة المرة الأخيرة ، بأن أفسدوا في المرة الآخرة ، بعثنا عليكم عبادًا لنا آخرين ، أُولي بأس شديد { ليَسُؤوا وجوهكم } ، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر ، كالكآبة والحزن ، كقوله : { سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المُلك : 27 ] { وليدخلوا المسجد } بيت المقدس { كما دخلوه أول مرة وليُتبروا } وليُهلكوا { ما عَلوا } عليه { تتبيرًا } إهلاكًا ، أو مدة علوهم . قال البيضاوي : وذلك بأن الله سلَّط عليهم الفرس مرة أخرى ، فغزاهم ملكُ بابِل ، اسمه " حَرْدُون " ، وقيل : " حَرْدوس " ، قيل : دخل صاحب الجيش مَذبح قرابينهم ، فوجد دمًا يغلي ، فسأل عنه ، فقالوا : دم قربان لم يُقبل منا . فقال : ما صدقتموني ، فقتل عليه ألوفًا منهم ، فلم يهدأَ الدم . ثم قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا ، فقالوا : دم يحيى ، فقال : لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم ، ثم قال : يا يحيى ، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك ، فاهدأ بإذن الله ، قبل ألاَّ أُبقي منهم أحدًا ، فهدأ . هـ . وقال السهيلي في كتاب " التعريف والإعلام " : المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل ، وكان إذ ذاك عليهم " بختنصر " ، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه . وأما في المرة الأخيرة : فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم ، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا . فقيل : بختنصر ، وهذا لا يصح لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى ، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل . هـ . وقول الجلال السيوطي : وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا ، فبعث عليهم جالوت وجنوده ، ولا يصح لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا ، وهو باطل . ثم قال تعالى لبني إسرائيل : { عسى ربُكم أن يرحَمكم } بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم ، { وإِن عُدتُم عُدْنَا } إلى عقوبتكم ، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقصد قتله ، فعاد إليهم بتسليطه عليهم ، فقتل من بني قريظة سبعمائة في يوم واحد ، وسبى ذراريهم ، وباعهم في الأسواق ، وأجلى بني النضير ، وضرب الجزية على الباقين . هذا في الدنيا ، { وجعلنا جهنم للكافرين } منهم ومن غيرهم { حصيرًا } محبسًا ، لا يقدرون على الخروج منها ، أبدَ الآباد . وقيل : بساطًا كبسط الحصير ، كقوله : { لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } [ الأعرَاف : 41 ] . والله تعالى أعلم . الإشارة : قد قضى الحقُّ جلّ جلاله ما كان وما يكون في سابق علمه ، فما من نفَس تُبديه إلا وله قدر فيك يُمضيه . فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته ، إذا أصبح نظر ما يفعل الله به . فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها ، وأبهم على عباده أمرَها ، فلو ظهرت لبطل سر التكليف . ولذلك لما سُئل عنه سيدنا علي - كرم الله وجهه - قال للسائل : بحر عميق لا تطيقه ، فأعاد عليه السؤال ، فقال : طريق مظلم لا تسلكه لأنه لا يفهم سر القضاء والقدر ، إلا من دخل مقام الفناء والبقاء ، وفرَّق بين القدرة والحكمة ، وبين العبودية والربوبية ، فإذا تحقق العارف بالوحدة ، عِلَمَ أنَّ الحق تعالى أظهر من خلقه مظاهر أَعدهم للإكرام ، وأظهر خلقًا أعدهم للانتقام ، وأبهم الأمر عليهم ، ثم خلق فيهم كسبًا واختيارًا فيما يظهر لهم ، وكلفهم لتقوم الحجة عليهم ، وتظهر صورة العدل فيهم . { ولا يظلم ربك أحدًا } . فالقدرة تُبرز ما سبق في الأزل ، والحكمة تستر أسرار القدر . لكن جعل للسعادة علامات كالتوفيق والهداية للإيمان ، وللشقاوة علامات كالخذلان والكفران . نعوذ بالله من سوء القضاء وحرمان الرضا . آمين . ومن علامة السعادة التمسك بما جاء به القرآن العظيم