Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 85-85)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويسألونك عن الروح } أي : عن حقيقة الروح ، الذي هو مدبر البدن الإنساني ، ومبدأ حياته . رُوي أن اليهود قالوا لقريش : سلوه عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن أجاب عنها كلها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي . فبيَّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح ، وهو مبهم في التوراة ، فقال : { قل الروح من أمر ربي } ، أظهر في مقام الإضمار إظهارًا لكمال الاعتناء بشرفه ، أي : هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية ، التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر . { وما أُوتيتم من العلم إِلا قليلاً } لا يمكن تعلقه بأمثال هذه الأسرار . رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك ، قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب ، قال عليه الصلاة والسلام : " بل نحن وأنتم " . فقالوا : ما أعجب شأنك ، ساعة تقول : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البَقَرَة : 269 ] ، وتارة تقول هذا ، فنزلت : { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } [ الكهف : 109 ] الآية . { وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ … } [ لقمان : 27 ] الآية . وهذا من ركاكة عقولهم فإن من الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية ، بل ما نيط به المعاش والمعاد ، وذلك بالإضافة إلى ما لا نهاية له من متعلقات علمه سبحانه ، قليل ينال به خير : كثير في نفسه . وقال ابن حجر : أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا : أخبرنا عن الروح ، وكيف تُعذب الروح في الجسد ، وإنما الروح من الله ؟ . هـ . قلت : يُجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية ، وأحاطت به القهرية . وقال القشيري : أرادوا أن يُغالطُوه فيما به يجيب ، فأمَرَه أن ينطق بأمرٍ يُفْصِحُ عن أقسامِ الروح ، لأنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ " الروح " يدخل تحت قوله : { قل الروح من أمر ربي } ، ثم قال : وفي الجملة : الروح مخلوقة ، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد ، ما دام الروح في جسده ، والروح لطيفة تَقرب للكثافة في طهارتها ولطافتها . وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين . وقيل : إن أدركها التكليف ، كان للروح صفاء التسبيح ، ضياء المواصلة ، ويُمن التعريف بالحق . هـ . وقيل : المراد بالروح خلق عظيم روحاني من أعظم الملائكة ، وقيل جبريل عليه السلام ، وقيل : القرآن . ومعنى { من أمر ربي } من وحيه وكلامه ، لا من كلام البشر . والله تعالى أعلم بمراده . الإشارة : قد أكثر الناسُ الكلام في شأن الروح ، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يجب عنها . وبيَّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره . ورأى بعضهم أن النهي لم يرد عن الخوض فيها صريحًا ، فتكلم على قدر فهمه . فقال بعضهم : حقيقة الروح : جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب ، وقال صاحب الرموز في فتح الكنوز على حديث : " من عرف نفسه فقد عرف ربّه " قد ظهر لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه ، وهو : أن الله ، سبحانه ، وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية ، لطيفة لاهوتية ، في كثيفة ناسوتية ، دالة على وحدانيته تعالى وربانيته ، ووجه الاستدلال من عشرة أوجه : الأول : أن هذا الهيكل الإنساني لَمَّا كان مفتقرًا إلى محرك ومدبر ، وهذا الروح هو الذي يدبره ويحركه ، علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر . الثاني : لَمَّا كان مدبر الجسد واحدًا علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له في تدبيره وتقديره . قال تعالى { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، الثالث : لَمَّا كان لا يتحرك هذا الجسم إلا بتحريك الروح وإرادته علمنا أنه لا يتحرك بخير أو شر إلا بتحريك الله وقدرته وإرادته . الرابع : لَمَّا كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها ، لا يخفي على الروح من حركة الجسد شيء ، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . الخامس : لَمَّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء ، ليس شيء أقرب إليه من شيء ، ولا شيء أبعد إليه من شيء ، لا بمعنى قرب المسافة لأنه منزه عن ذلك . السادس : لَمَّا كان الروح موجودًا قبل الجسد ، ويكون موجودًا بعد عدمه علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه ، ويكون موجودًا بعد عدمهم ، ما زال ، ولا يزال ، وتقدس عن الزوال . السابع : لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية . الثامن : لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ولا أينية ، بل الروح موجود في سائر الجسد ، ما خلا منه شيء في الجسد . كذلك الحق سبحانه موجود في كل مكان ، وتنزه عن المكان والزمان التاسع : لَمَّا كان الروح في الجسد لا يحس ولا يجس ولا يُمس ، علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس . العاشر : لَمَّا كان الروح في الجسد لا يُدرك بالبصر ، ولا يمثل بالصور ، علمنا أنه تعالى لا تُدركه الأبصار ، ولا يمثل بالصور والآثار ، ولا يشبه بالشموس والأقمار ، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] . هـ . وحديث : " من عرف نفسه … " الخ ، قال النووي : غير ثابت ، وقال السمعاني : هو من كلام يحيى بن معاذ الرازي . والله تعالى أعلم . وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح ، أمخلوقة هي ؟ قال : نعم . ولولا ذلك لما أقرت بالربوبية حتى قالت : " بلى " . قلت : لما انفصلت عن الأصل كستها أردية العبودية ، فأقرت بالربوبية . وقال الورتجبي : الروح : شعاع الحقيقة ، يختلف آثارها في الأجساد . قال : ومن خاصيتها أنها تميل إلى كل حسن ومستحسن ، وكل صوت طيب ، وكل رائحة طيبة لحسن جوهرها وروح وجودها ، ظاهرها غيب الله ، وباطنها سر الله ، مصورة بصورة آدم . فإذا أراد الله خلق آدمي أحضر روحه ، فصور صورته بصورة الروح فلذلك قال عليه الصلاة والسلام إشارة وإبهامًا : " خلق الله آدم على صورته " هـ . قلت : يعني : أن إظهار الروح من بحر الجبروت ، في التجلي الأول ، كان على صورة آدم ، ثم خلق آدم على صورة الروح الأعظم ، وهو التجلي الأول من بحر المعاني ، فكانت أول التجليات من ذات الرحمن ، فقال في حديث آخر : " إن الله خلق آدم على صورة الرحمن " والله تعالى أعلم . وقيل : الصوت الطيب روحاني ، ولتشاكله مع الروح ، صار يهيج الروح ويحثها للرجوع لأصلها ، إذا كان صاحبها له ذوق سليم ، يسمع من صوت طيب كريم . سمع أبو يزيد نغمة ، فقال : أجد النغم نداء منه تعالى . وقيل : إن الروح لم تدخل في جسد آدم إلا بالسماع ، فصارت لا تخرج من سجنه إلا بالسماع . والله تعالى أعلم . ثمَّ بين قوله { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }