Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 86-89)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : قال ابن جزي : هذه الآية متصلة المعنى بقوله : { وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً } أي : في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك ، فلا يبقى عندكم شيء من العلم . هـ . { إلا رحمة } : يحتمل أن يكون متصلاً ، أي : لا تجد من يتوكل برده إلا رحمة ربك . أو منقطعًا ، أي : لو شئنا لذهبنا بالقرآن ، لكن رحمة من ربك تمسكه من الذهاب ، و { لا يأتون } : جواب القسم الدال عليه اللام الموطئة ، وسد مسد جواب الشرط . ولولا اللام لكان جوابًا للشرط ، ولم يُجزَمْ لكون الشرط ماضيًا ، كقول زهير : @ فإن أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسألَةٍ يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَا لي وَلاَ حَرَمُ @@ و { إلا كفورًا } : استثناء مفرغ منصوب بأَبَى لأنه في معنى النفي ، أي : ما رضي أكثرهم إلا الكفر به . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولئنْ شئنا لنَذْهَبَنَّ بالذي أوْحَينا إِليك } أي : بالقرآن الذي هو منبع العلوم التي أُوتيتموها ، ومقتبس الأنوار ، فلا يبقى عندكم من العلم إلا قليلاً . والمراد بالإذهاب : المحو من المصاحف والصدور . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أول ما تفقدون من دينكم : الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ، وليصلين قوم ولا دين لهم . وإن هذا القرآن تصبحون يومًا وما فيكم منه شيء . فقال رجل : كيف ذلك ، وقد أثبتناه في قلوبنا ، ودونّاه في مصاحفنا ، وعلمناه أبناءنا ، وأبناؤنا يعلمه أبناءهم ؟ ! فقال : يسري عليه ، ليلاً ، فيُصبح الناس منه فقراء ، ترفع المصاحف ، وينزع ما في القلوب . { ثم } إن رفعناه { لا تجدُ لك به } أي : القرآن { علينا وكيلاً } أي : من يتوكل علينا استرداده مسطورًا محفوظًا ، { إلا رحمةً من ربك } فإنها إن تأتك لعلها تسترده ، أو : لكن رحمة من ربك أمسكته فلم يذهب . { إِنَّ فضله كان عليك كبيرًا } ، كإرْسالك للناس كافة وإنزال الكتاب عليك ، وإنعامه في حفظك ، وغير ذلك مما لا يحصى . ثم نوّه بقدر الكتاب الذي أنزله فقال : { قل لئن اجتمعت الإِنسُ والجِنُّ } ، واتفقوا { على أن يأتوا بمثْلِ هذا القرآنِ } المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة في البلاغة ، وحسن النظم ، وكمال المعنى ، { لا يأتون بِمثله } أبدًا لما تضمنه من العلوم الإلهية ، والبراهين الواضحة ، والمعاني العجيبة ، التي لم يكن لأحد بها علم ، ثم جاءت فيه على الكمال ، ولذلك عجزوا عن معارضته . وقال أكثر الناس : إنما عجزوا عنه لفصاحته ، وبراعته ، وحسن نظمه . ووجوه إعجازه كثيرة . وإنما خص الثقلين بالذكر ، لأن المنكر كونه من عند الله منهما ، لا لأنَّ غيرهما قادر على المعارضة . وإنما أظهر في محل الإضمار ، ولم يقل : لا يأتون به لئلا يتوهم أن له مثلاً معينًا ، وإيذانًا بأن المراد نفي الإتيان بمثَلٍ مَّا ، أي : لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة ، وفيهم العرب العاربة ، أرباب البراعة والبيان . فلا يقدرون على الإتيان بمثله { ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا } أي : ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان بمثله ما قدروا . وهو عطف على مقدر ، أي : لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرًا لبعض ، ولو كان … الخ . ومحله النصب على الحالية ، أي : لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ، ولو على هذه الحالة . ثم قال تعالى : { ولقد صَرَّفنا } أي : كررنا ورددنا على أنحاء مختلفة ، توجب زيادة تقرير وبيان ، ووكادة رسوخ واطمئنان ، { للناس في هذا القرآن } المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة ، { من كل مَثَلٍ } من كل معنى بديع ، هو ، في الحسن والغرابة واستجلاب الأنفس ، كالمثل ليتلقوه بالقبول ، أو بيَّنَّا لهم كل شيء محتاجون إليه من العلوم النافعة ، والبراهين القاطعة ، والحجج الواضحة . وهذا يدل على أن إعجاز القرآن هو بما فيه من المعاني والعلوم ، { فَأَبَى أكثرُ الناس إِلا كُفورًا } إلا جحودًا وامتناعًا من قبوله . وفيه من المبالغة ما ليس في نفي مطلق الإيمان لأن فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور والجحود ، وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء . وبالله التوفيق . الإشارة : كما وقع التخويف بإذهاب خصوصية النبوة والرسالة ، يقع التخويف بإذهاب خصوصية الولاية والمعرفة العيانية ، فإن القلوب بيد الله ، يُقلبها كيف يشاء . والخصوصية أمانة مودعة في القلوب ، فإذا شاء رفعها رفَعها ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره . وما زالت الأكابر يخافون من السلب بعد العطاء ، ويشدون أيديهم على الأدب لأن سوء الأدب هو سبب رفع الخصوصية ، والعياذ بالله . قال القشيري : سُنَّةُ الحقِّ مع خيار خواصه أن يُدِيم هم شهود افتقارهم إليه ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين بجريانِ حُكْمِه ، ثم قال : والمرادُ والمقصودُ : إدامة تَفَرُّدِ سِرِّ حبيبه به ، دونَ غيره . هـ . وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون في خصوصية المعرفة بعد التمكين ، إذ لا مانع لما أعطى الكريم ، وإنما يكون في خصوصية التصريف وسر الأسماء ، إذا كان أحدهما متمكنًا فيه ، وقابل من لم يتمكن ، قد ينجذب إلى القوى بإذن الله ، وقد يُزال منه إذا طغى به . والله تعالى أعلم . ثمَّ أظهر الحق تعالى جمودهم وعتوهم