Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 90-96)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : من قرأ " كسفًا " بالتحريك : فهو جمع . ومن قرأ بالسكون : فمفرد . و { قبيلاً } : حال من " الله " . وحذف حال الملائكة لدلالة الأول عليه . و { أن يؤمنوا } : مفعول ثان لمنَع . و { إلا أن قالوا } : فاعل " منع " . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا } أي : كفار قريش ، عند ظهور عجزهم ، ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي ، وغيره من المعجزات الباهرة ، معلِّلين بما لا يمكن في العادة وجوده ، ولا تقتضي الحكمة وقوعه ، من الأمور الخارقة للعادة ، كما هو ديدن المبهوت المحجوج ، قالوا للنبي - عليه الصلاة والسلام - في جمع من أشرافهم : إن مكة قليلة الماء ، ففجر لنا فيها عينًا من ماء ، وهو معنى قوله تعالى : { لن نُؤمن لك حتى تَفْجُرَ لنا من الأرض } أرض مكة { يَنْبوعًا } عينًا لا ينشف ماؤها . وينبوع : يفعول ، من نبع الماء إذا خرج . { أو تكون لك جنَّةٌ } أي : بستان يستر أشجاره ما تحتها من العرصة ، { من نخيلٍ وعِنَبٍ فتفجرَ الأنهارَ } أي : تجريها بقوة ، { خلالها } في وسطها { تفجيرًا } كثيرًا ، والمراد : إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها ، أو إدامة إجرائها ، كما ينبئ عنه " الفاء " ، { أو تُسْقِطَ السماء كما زعمتَ علينا كِسَفًا } قطعًا متعددة ، أو قطعًا واحدًا ، و { كما زعمت } : يعنون بذلك قوله تعالى : { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ سبأ : 9 ] ، { أو تأتي بالله والملائكة قَبيلاً } أي : مقابلاً نُعاينه جهرًا ، أو ضامنًا وكفيلاً يشهد بصحة ما تدعيه ، { أو يكون لك بيتٌ من زُخرفٍ } أي : ذهب . وقرئ به . وأصل الزخرفة : الزينة ، { أو تَرْقَى في السماء } أي : في معارجها فحذف المضاف . { ولن نُؤمن لرُقيك } أي : لأجل رُقيك فيها وحده { حتى تنزل } منها { علينا كتابًا } فيه تصديقك ، { نقرؤه } نحن ، من غير أن يتلقى من قبلك . وعن ابن عباس رضي الله عنه : قال عَبْدُ اللهِ بنُ أُميَّة لرسول صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عمته - : لن أؤمن لكَ حَتَّى تتَّخذَ إلى السماء سُلَّمًا ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر ، حتَّى تأتيها ، وتأتي معك بصك منشور ، معه أربعة من الملائِكَةِ يَشْهَدُونَ أنك كما تقول . هـ . ثم أسلم عبد الله بعد ذلك . ولم يقصدوا بتلك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج . ولو أنهم أوتوا أضعاف ما اقترحوا من الآيات ، ما زادهم ذلك إلا مكابرة . وإلا فقد يكفيهم بعض ما شهدوا من المعجزات ، التي تخر لها صُم الجبال . قال تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : { قلْ } تعجبًا من شدة شكيمتهم . وفي رواية " قال " : { سبحان ربي } تنزيهًا له من أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد في قدرته . أو تنزيهًا لساحته - سبحانه - عما لا يليق بها ، من مِثل هذه الاقتراحات الشنيعة ، التي تكاد السماوات يتفطرن منها ، أو عن طلب ذلك ، تنبيهًا على بطلان ما قالوه ، { هل كنتُ إِلا بشرًا } لا مَلَكًا ، حتى يتصور مني الرقي في السماء ونحوه ، { رسولاً } مأمورًا من قِبل ربي بتبليغ الرسالة ، كسائر الرسل . وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم ، حسبما يلائم حال قومهم ، ولم يكن أمر الآيات إليهم ، ولا لهم أن يتحكموا على ربهم بشيء منها . { وما مَنَعَ الناسَ } أي : الذين حكِيتْ أباطيلهم ، { أنْ يُؤمنوا إِذ جاءهم الهُدى } أي : الوحي ، وهو ظرف لمنع ، أو يؤمنوا ، أي : وما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان ، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك ، { إلا أن قالوا } أي : إلا قولهم : { أَبَعثَ اللهُ بشرًا رسولاً } ، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر . وليس المراد أن هذا القول صدر من بعضهم فمنع بعضًا آخر منهم ، بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل ، المستتبع بهذا المقول منهم . وإنما عبَّر عنه بالقول إيذانًا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير روية ، ولا مصداق له في الخارج . وقصر المانع من الإيمان فيما ذكر ، مع أن لهم موانع شتى ، إما لأنه معظمها ، أو لأنه المانع بحسب الحال ، أعني : عند سماع الجواب بقوله تعالى : { هل كنتُ إِلا بشرًا رسولاً } إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ ، من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية . { قلْ } لهم من قِبَلنا تثبيتًا للحكمة ، وتحقيقًا للحق المزيح للريب : { لو كان } أي : لو وُجد واستقر { في الأرض } بدل البشر { ملائكةً يمشونَ مطمئنين } قارين ساكنين فيها ، { لنزَّلنا عليهم من السماء مَلكًا رسولاً } يهديهم إلى الحق لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه . وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة مع الملائكة لأنها منوطة بالتناسُب والتجانس ، فبعث الملائكة إليهم مناقض للحكمة التي يدور عليها أمر التكوين والتشريع . وإنما يبعث الملك إلى الخواص ، المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيدة بالقوة القدسية ، فيتلقون منهم ويُبلغون إلى البشر . { قل كفى بالله } وحده { شهيدًا } على أني أديتُ ما عليَّ من مواجب الرسالة ، وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد . فهو شهيد { بيني وبينكم } ، وكفى به شهيدًا ، ولم يقل : بيننا تحقيقًا للمفارقة ، وإبانة للمباينة ، { إِنه كان بعباده } من الرسل والمرسل إليهم ، { خبيرًا بصيرًا } محيطًا بظواهر أعمالهم وبواطنها ، فيجازيهم على ذلك . وهو تعليل للكفاية . وفيه تسلية للرسول - عليه الصلاة والسلام - وتهديد للكفار ، والله تعالى أعلم . الإشارة : طلب الكرامات من الأولياء جهل بطريق الولاية ، وسوء الظن بهم ، إذ لا يشترط في تحقيق الولاية ظهور الكرامة ، وأيُّ كرامة أعظم من كشف الحجاب بينهم وبين محبوبهم ، حتى عاينوه وشاهدوه حقًا ، وارتفعت عنهم الشكوك والأوهام ، وصار شهود الحق عندهم ضروريًا ، ووجود السِّوَى محالاً ضروريًا ، فلا كرامة أعظم من هذه ؟ وكلامنا مع العارفين ، وأما الصالحون والعباد والزهاد فهم محتاجون إلى الكرامة ليزداد إيقانهم ، وتطمئن نفوسهم إذ لم يرتفع عنهم الحجاب ، ولم تنقشع عنهم سحابة الأثر . والهداية بيد الله تعالى : { َمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ … }