Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 54-59)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { جَدَلاً } : تمييز ، و { ربك } : مبتدأ و { الغفور } : خبره ، و { ذو الرحمة } : خبر بعد خبر ، وقيل : الخبر : { لو يؤاخذهم } ، و { الغفور ذو الرحمة } : صفتان للمبتدأ ، وإيراد المغفرة على جهة المبالغة دون الرحمة للتنبيه على كثرة الذنوب ، وأيضًا : المغفرة ترك المؤاخذة ، وهي غير متناهية ، والرحمة فعل ، وهو متناهي ، وتقديم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية ، و المُهْلَك بضم الميم وفتح اللام : اسم مصدر ، من أهلك ، فالمصدر ، على هذا ، مضاف للمفعول لأن الفعل متعد ، وقرئ بفتح الميم ، من هلك ، فالمصدر ، على هذا ، مضاف للفاعل . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد صرَّفنا } أي : كررنا وأوردنا على وجوهٍ كثيرة من النظر العجيب ، { في هذا القرآنِ للناس } لمصلحتهم ومنفعتهم ، { من كل مَثَلٍ } من كل خبر يحتاجون إليه ، أو : من كل مثل مضروب يعتبرون به ، ومن جملته ما مر من مثل الرجلين ، ومثل الحياة الدنيا . أو : من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان ، التي هي ، في الغرابة والحسن واستجلاب القلوب ، كالمثل المضروب ، ليتلقوه بالقبول ، فلم يفعلوا . { وكان الإنسانُ } بحسب جِبلَّته { أكثرَ شيءٍ جدلاً } أي : أكثر الأشياء ، التي يتأتى منها الجدل ، جدلاً ، وهو هنا شدة الخصومة بالباطل ، والمعنى : أن جدله أكثر من جدل كل مجادل ، وفيها ذم الجدل . وسببها : مجادلة النضر بن الحارث كما قيل ، وهي عامة . { وما منع الناسَ } أي : أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم ، من { أن يؤمنوا } بالله تعالى ، ويتركوا ما هم فيه من الإشراك ، { إِذْ جاءهُم الهُدَى } أي : حين جاءهم القرآن الهادي إلى الإيمان ، بسبب ما فيه من فنون العلوم وأنواع الإعجاز ، فيؤمنوا ، { ويستغفروا ربهم } عما فرط منهم من أنواع الذنوب ، التي من جملتها : مجادلتهم للحق بالباطل ، { إِلا أن تأتيهم سُنَّةُ الأولين } أي : ما منعهم إلا إتيان سنة الأولين ، وهو نزول العذاب المستأصل أو انتظاره ، فيكون على حذف مضاف ، أي : انتظار سنة الأولين ، وهو الهلاك . قال ابن جزي : معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سُنَّة الأمم المتقدمة ، وهي الإهلاك في الدنيا ، أو يأتيهم العذاب أي : عذاب الآخرة . هـ . قلت : والظاهر أن معنى الآية : ما منعهم من الإيمان إلا انتظار آية يرونها عيانًا ، كعادة الأمم الماضية ، فيهلكوا كما هي سُنَّة الله في خلقه ، أو : عذاب ينزل بهم جهرًا ، وهو معنى قوله : { أو يأتيهم العذابُ قُبُلاً } أي : مقابلة وعيانًا . قال تعالى : { وما نُرسل المرسلين } إلى الأمم { إِلا مبشرين ومنذرين } أي : مبشرين للمؤمنين بالثواب ، ومنذرين للكافرين بالعقاب ، دون إظهار الآيات واقتراح المعجزات ، { ويُجادل الذين كفروا بالباطل } باقتراح الآيات كالسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها . يفعلون ذلك { ليُدْحِضُوا به } أي : بالجدال { الحقَّ } ، أي : يزيلونه عن مركزه ويبطلونه ، من إدحاض القدم وهو إزلاقها . وجدالهم : قولهم لرسلهم عليهم السلام : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ يس : 15 ] ، { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } [ المؤمنون : 24 ] ، ونحوها . { واتخذوا آياتي } التي تخرّ لها صُمُّ الجبال ، وهو القرآن ، { وما أنذروا } أي : وإنذاري لهم ، أو : الذي أنذروا به من العذاب والعقاب ، { هُزُوًا } مهزوءًا به ، أو محل استهزاء . { ومَن أظلمُ ممّن ذُكِّرَ بآياتِ ربه } وهو القرآن العظيم ، { فأعْرَضَ عنها } فلم يتدبرها ولم يؤمن بها ، أي : لا أحد أظلم منه لأنه أظلم من كل ظالم حيث ضم إلى المجادلة التكذيب والإعراضَ ، { ونَسِيَ ما قدمت يداه } من الكفر والمعاصي ، ولم يتفكر في عاقبتها ، { إِنا جعلنا على قلوبهم أكِنَّةً } : أغطية كثيرة تمنعهم من التدبر في الآيات ، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم ، فعل ذلك بهم كراهة { أن يفقهوه } ، أو : منعناهم أن يقفوا على كنهه . { و } جعلنا { في آذانهم وَقْرًا } أي : ثِقلاً يمنعهم من استماعه ، { وإِن تَدْعُهُمْ إِلى الهدى فلن يهتدوا إِذًا أبدًا } أي : فلن يكون منهم اهتداء الْبتةَ مدة التكليف للطبع المتقدم على قلوبهم ، وهذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء . و " إذًا " : حرف جزاء وجواب ، وهو ، هنا ، عن سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم ، كأنه قال صلى الله عليه وسلم : " ما لي لا أدعوهم " ؟ فقال : إن تدعهم … الخ . وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه ، كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار اللفظ . { وربُّك الغفور } : البليغ المغفرة { ذو الرحمة } الموصوف بها ، { لو يُؤاخذهم بما كسبوا } من المعاصي ، التي من جملتها : ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل ، وإعراضهم عن آيات ربهم ، وعدم مبالاتهم بما اجترحوا من الموبقات ، { لعجَّلَ لهم العذابَ } قبل يوم القيامة لاستجلاب أعمالهم لذلك ، والمراد : إمهال قريش ، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { بل لهم موعدٌ } وهو يوم القيامة ، أو يوم بدر ، والمعطوف عليه ببل : محذوف ، أي : لكنهم ليسوا بمؤاخذين ، { بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً } أي : ملجأ يلتجئون إليه ، أو مَنْجىً ينجون به ، يقال : وأَلَ : أي : نجا ، ووأل إليه : أي : التجأ إليه . { وتلك القرى } أي : قرى عاد وثمود وأضرابها ، أي : وأهل تلك القرى { أهلكناهم } بالعذاب { لمَّا ظلموا } أي : وقت ظلمهم ، كما فعلت قريش بما حكى عنهم ، { وجعلنا لمهلكهم } أي : عَيَّنَّا لهلاكهم { موعدًا } أي : وقتًا مُعَينًا ، لا محيدَ لهم عن ذلك ، فلتعتبر قريش بذلك ولا تغتر . والله تعالى أعلم . الإشارة : قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد ، من علم الظاهر والباطن ، لكن خوض القلوب فيما لا يعني ، وكثرة مجادلتها بالباطل ، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه . فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه . وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء ، وهم العارفون بالله ، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله ، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم ، ونزول العذاب على من آذاهم ، وهو جهل بطريق الولاية لأنهم رحمة للعباد ، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان ، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير ، وبملاطفة الوعظ والتذكير ، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا ، حيث حادوا عن تذكيرهم ، ونفروا عن صحبتهم ، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار ، سَبَبُ ذلك : جَعْلُ الأكنة على القلوب ، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب ، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا ، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا ، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى ، فلن يهتدوا إذًا أبدًا لِمَا سبق لهم في سابق القضاء ، فلولا مغفرته العامة ، ورحمته التامة ، لعجل لهم العذاب ، لكن له وقت معلوم ، وأجل محتوم ، لا محيد عنه إذا جاء ، ولا ملجأ منه ولا منجا . نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه .