Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 61-65)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { بينهما } : ظرف مضاف إليه اتساعًا ، أو بمعنى الوصل ، و { سَرَبًا } : مفعول ثان لاتخذ ، و { إذ أوينا } : متعلق بمحذوف ، أي : أخبرني ما دهاني حين أويتُ إلى الصخرة حتى لم أخبرك بأمر الحوت ، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره . و { أن أذكره } : بدل من الهاء في { أنسانيه } بدل اشتمال للمبالغة ، و { عجبًا } : مفعول ثان لاتخذ ، وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله : { في البحر } ، ثم ابتدأ التعجب فقال : { عجبًا } أي : أَعْجَبُ عَجَبًا ، وهو بعيد . قاله ابن جزي . قلت : وهذا البعيد هو الذي ارتكب الهبطي . و { قصصًا } : مصدر ، أي : يقصان قصصًا . يقول الحقّ جلّ جلاله : ثم إن موسى ويوشع - عليهما السلام - حملا حوتًا مشويًا وخُبزًا ، وسارا يلتمسان الخضر ، { فلما بلغا مَجْمَعَ بينهما } بين البحرين ، أو مجمع وصل بعضهما ببعض ، وجدا صخرة هناك ، وعندها عين الحياة ، لا يصيب ذلك الماءُ شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله ، وكانا وَصَلاَ إليها ليلاً ، فناما ، فلما أصاب السمكة رَوْحُ الماء وبردُه اضطرب في المِكْتَلِ ، ودخل البحر ، وقد كانا أَكَلاَ منه ، وكان ذلك بعد استيقاظ يوشع ، وقيل : توضأ عليه السلام من تلك العين ، فانتضح الماء على الحوت ، فحيى ودخل البحر ، فاستيقظ موسى ، وذهبا ، و { نَسِيَا حوتَهما } أي : نسيا تفقد أمره وما يكون منه ، أو نسي يوشع أن يعلمه ، وموسى عليه السلام أن يأمر فيه بشيء ، { فاتخذ } الحوت { سبيله } أي : طريقه { في البحر سَرَبًا } مسلكًا كالطّاق ، قيل : أمسك الله جرية الماء على الحوت فجمد ، حتى صار كالطاق في الماء معجزة لموسى أو الخضر - عليهما السلام - . فلما جاوزا مجمع البحرين ، الذي جُعل موعدًا للملاقاة ، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر ، وجد موسى عليه السلام حَرَّ الجوع ، فـ { قال لفتاه آتنا غداءنا } أي : ما نتغدى به ، وهو الحوت ، كما يُنبئ عنه الجواب ، { لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا } : تعبًا وإعياء . قيل : لم يَنْصَبْ موسى ولم يَجُعْ قبل ذلك ، ويدل عليه الإتيان بالإشارة ، وجملة { لقد لقينا } : تعليل للأمر بإيتاء الغذاء ، إما باعتبار أن النَّصَب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع ، وإمَّا باعتبار ما في أثناء التغذي من استراحة مَّا . { قال } فتاه عليه السلام : { أرأيت إذ أوينا إِلى الصخرة } أي : التجأنا إليها ونِمنا عندها ، { فإني نسيتُ الحوت } أي : أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت ، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره ، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان ، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى ، { وما أنسانيهُ إِلا الشيطانُ } بوسوسته الشاغلة له عن ذلك ، { أن أذكره } ، ونسبته للشيطان هضمًا لنفسه ، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان ، وإن كان الكل من عند الله . وهذه الحالة ، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها ، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع موسى عليه السلام ، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها ، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس ، حتى غاب عن الإخبار بها . { قلت } : والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب ، وحكمتُه ما لقي من النصب لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام ، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب ، ولذلك : " حفت الجنة بالمكاره " . ثم قال : { واتخذ } الحوتُ { سبيلَه في البحر عَجَبًا } ، فيه حذف ، أي فحيى الحوت ، واضطرب ، ووقع في البحر ، واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجبًا ، أو اتخاذًا عجبًا يُتعجب منه ، وهو كون مسلكه كالطاق ، { قال } موسى عليه السلام : { ذلك ما كنا نبغ } أي : ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كُنا نطلبه لكونه أمارة للفوز بالمرام ، { فارتدَّا } أي : رجعا { على } طريقهما الذي جاءا منه ، يَقُصَّان . يتبعان { آثارِهما قَصَصًا } ، حتى أتيا الصخرة { فوجدا عبدًا من عبادنا } ، التنكير للتفخيم والإضافة للتعظيم ، وهو الخضر عليه السلام عند الجمهور ، واسمه : بَلْيَا بن مَلْكَان يُعْصوا ، والخضر لقب له لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فاهتزّت تحته خضراء ، كما في حديث أبي هريرة - عنه - صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : سمي خضرًا لأنه كان إذا صلى خضر ما حوله ، ثم قال : وهو ابن عابر بن شالِخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وكان أبوه ملكًا . هـ . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة الخضر ، فقال : " كان ابن ملك من الملوك ، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده ، فأبى وهرب ، ولحق بجزائر البحر ، فلم يقدر عليه " قيل إنه شرب من عين الحياة فمُتع بطول الحياة . رُوِيَ أن موسى عليه السلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السلام على طنْفَسَةٍ - أي : بساط - على وجه الماء ، فسلم عليه . وعنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " انتهى موسى إلى الخضر ، وهو نائم مُسَجى عليه ثوب ، فسلَّمَ عليه فاستوى جالسًا ، وقال : عليك السلام يا نبي بني إسرائيل ، فقال موسى : من أخبرك أني نبي بني إسرائيل ؟ قال : الذي أدراكَ بي ، ودلك عليَّ " قال تعالى في حق الخضر : { آتيناه رحمةً من عندنا } ، هي الوحي والنبوة ، كما يُشعر به تنكير الرحمة ، وإضافتها إلى جناب الكبرياء ، وقيل : هي سر الخصوصية ، وهي الولاية . { وعلَّمناه من لَّدُنَّا عِلْمًا } خاصًا ، لا يكتنه كُنْهه ، ولا يُقدر قدره ، وهو علم الغيوب ، أو أسرار الحقيقة ، أو علم الذات والصفات ، علمًا حقيقيًا . فالخضر عليه السلام قيل : إنه نبي بدليل قوله فيما يأتي : { وما فعلته عن أمري } ، وقيل : وَلِيٌّ ، واخْتلف : هل مات ، أو هو حي ؟ وجمهور الأولياء : أنه حي ، وقد لقيه كثيرٌ من الصلحاء والأولياء ، حتى تواتر عنهم حياته . والله تعالى أعلم . الإشارة : إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه ، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة ، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله ، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه ، ويخرق عوائد نفسه ، ويفنى عن بشريته ، ويبقى بربه ، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه ، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه ، ويَظهر منه خرق العوائد ، كما ظهر من الحوت ، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق ، وذلك اقتدار ، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر ، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة . قاله في الحاشية بمعناه . وقال قبل ذلك في قوله : واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا : أي اتخذ الحوتُ ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ اتخذ : موسى ، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ بأن مشى على الماء في طريق الحوت ، حتى وجد الخضر على كبد البحر . ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب ، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب حكمة ، وحالة الاقتدار أشرف ، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام ، بخلاف الآخر ، فإن نفعه خاص . هـ . وقوله تعالى : { وعلّمناه من لدُنَّا علمًا } ، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم ، قال عليه الصلاة والسلام : " من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل ، وتفرغه من العلائق والشواغل ، فإذا كمل تطهير القلب ، وانجذب إلى حضرة الرب ، فاضت عليه العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول ، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول ، بل تُسلم لأربابها ، من غير أن يقتدى بهم في أمرها ، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة ، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام ، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء ، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى . وبالله التوفيق . ثمَّ تمَّم قصتهما بعد التقائهما