Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 71-77)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : ضمَّن ركوب السفينة معنى الدخول فيها ، فعداه بفي ، وقد تركه على أصله في قوله : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النّحل : 8 ] . يقول الحقّ جلّ جلاله : { فانطلقا } أي : موسى والخضر ، وسكت عن الخادم لكونه تبعًا ، وقيل : إن يوشع لم يصحبهما ، بل رجع ، فصارا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت بهم سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نَوْل ، فلما لَجَّجُوا البَحْرَ أخذ الخضرُ فأسًا فخرق السفينة ، فقلع لوحًا أو لوحين مما يلي الماء ، فحشاها موسى بثوبه ، و { قال أخرقتها لتُغرق أهلَها } أو : ليَغرَق أهلُها ، { لقد جئتَ } أي : أتيتَ وفعلت ، { شيئًا إِمْرًا } أي : عظيمًا هائلاً ، يقال : أَمِر الأمرُ : عظم ، { قال } الخضر : { ألم أقل إِنك لن تستطيع معي صبرًا } تذكيرًا لما قاله له من قبلُ ، وإنكارًا لِعدم الوفاء بالعهد ، { قال } موسى عليه السلام : { لا تُؤاخذني بما نسيتُ } أي : بنسياني ، أو بالذي نسيته ، وهو وصيته بأن لا يسأله عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفية الأسباب قبل بيانه ، أراد : نسي وصيته ، ولا مؤاخذة على الناسي ، وفي الحديث : " كانت الأولى مِن مُوسى نسيانًا " أو : أراد بالنسيان الترك ، أي : لا تُؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة . { ولا تُرهقني } أي : لا تُغْشِنِي ولا تُحَمِّلْنِي { من أمري } ، وهو اتباعك ، { عُسرًا } أي : لا تعَسِّرْ عليّ في متابعتك ، بل يسرها عليّ بالإغضاء والمسامحة . { فانطلقا } أي : فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا { حتى إذا لقيا غلامًا فقتله } قيل : كان يلعب مع الغلمان ففتَلَ عنقه ، وقيل : ضرب رأسه بحجر ، وقيل : ذبحه ، والأول أصح لوروده في الصحيح ، رُوي أن اسم الغلام " جيسور " بالجيم ، وقيل : بالحاء المهملة ، فإِن قلت : لِمَ قال { خرقها } بغير فاءٍ ، وقال : { فقتله } بالفاء ؟ فالجواب : أن " خَرَقَها " : جواب الشرط ، و { قتله } : من جملة الشرط ، معطوفًا عليه ، والجزاء هو قوله : { قال أقتلت } ، فإن قلت : لِمَ خولف بينهما ؟ فالجواب : أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب ، وقد تعقب القتل لِقاء الغلام . هـ . وأصله للزمخشري . وقال البيضاوي : ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء ، واعتراض موسى عليه السلام مستأنفًا في الأولى ، وفي الثانية { فقتله } من جملة الشرط ، واعتراضه جزاء لأن القتل أقبح ، والاعتراض عليه أدخل ، فكان جديرًا بأن يجعل عمدة الكلام ، ولذلك وصله بقوله : { لقد جئت شيئًا نُكرًا } أي : منكرًا . هـ . وناقشه أبو السعود بما يطول ذكره . { قال } موسى عليه السلام في اعتراضه : { أقتلتَ نفسًا زكية } : طاهرة من الذنوب ، وقرئ بغير ألف مبالغةً ، { بغير نَفْسٍ } أي : بغير قتلِ نفسٍ محرمةٍ ، فيكون قصاصًا . وتخصيص نفي هذا القبيح بالذكر من بين سائر القبيحات من الكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد إحصان لأنه أقرب إلى الوقوع نظرًا لحال الغلام . { لقد جئتَ شيئًا نُكْرًا } أي : مُنكرًا ، قيل : أنكرُ من الأول ، إذ لا يمكن تداركه ، كما يمكن تدارك الأول بالسد ونحوه . وقيل : " الإمْر " أعظم لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة . { قال } له الخضرُ عليه السلام : { ألم أقل لك إِنك لن تستطيعَ معي صبرًا } ، زاد " لك " لزيادة تأكيد المكافحة بالعتاب على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر ، لما تكرر منه الإنكار ، ولم يَرْعَوِ بالتذكير ، حتى زاد في النكير في المرة الثانية بذكر المنكر . { قال } موسى عليه السلام : { إِنْ سألتك عن شيء بعدها } بعد هذه المرة { فلا تُصاحبني } إن سألتُ صُحبتَكَ ، وقرأ يعقوب : " فلا تصحبني " رباعيًا ، أي : لا تجعلني صاحبًا لك ، { قد بلغتَ من لدُنِّي عُذْرًا } أي : قد أعذرتَ ووجدت مِنْ قِبَلِي عذرًا في مفارقتي ، حيث خالفتك ثلاث مرات . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أَخِي مُوسَى ، استحيا ، فقال ذلك ، لو لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأبْصرَ أَعْجَبَ الأعَاجِيب " وفي البخاري : " وددنا لو صبر موسى ، حتى يقص الله علينا من أمرهما " . { فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قريةٍ } ، هي أنطاكية ، وقيل : أَيْلة ، وقيل الأبُلة ، وهي أبعد أرض الله من السماء ، وقيل : برقة ، وقال أبو هريرة وغيره : هي بالأندلس . ويُذكر أنها الجزيرة الخضراء . قلت : وهي التي تسمى اليوم طريفة ، وأصلها بالظاء المشالة . وذلك على قول إن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " كانوا أهل قرية لِئامًا " وقال قتادة : شر القرى التي لا يُضاف فيها الضيف ، ولا يعرف لابن السبيل حقه . ثم وصف القرية بقوله : { استطعما أهلها } أي : طلبا منهم طعامًا ، ولم يقل : استطعماهم ، على أن يكون صفة لأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم ، فإن الإباء من الضيافة ، مع كونهم أهلها قاطنين بها ، أشنع وأقبح . رُوي أنهما طافا بالقرية يطلبان الطعام ، فلم يطعموهما . واستضافاهم { فأَبَوا أن يُضيفوهما } بالتشديد ، وقرئ بالتخفيف . يقال : ضافه : إذا كان له ضيفًا ، أضافه وضيّفه : أنزله ضيفًا . وأصل الإضافة : الميل ، من : ضاف السهمُ عن الغرض : مال ، ونظيره : زاره ، من الازْوِرَار ، أي : الميل . فبينما هما يمشيان ، { فوجدا فيها جدارًا } ، قال وهب : كان طوله مائة ذراع ، { يُريد أن ينقضَّ } أي : يسقط ، استعار الإرادة للمشارفة للدلالة على المبالغة في ذلك ، والانقضاض : الإسراع في السقوط ، وهو انفعال ، من القض ، يقال : قضضته فانقض ، ومنه : انقضاض الطير والكوكب لسقوطه بسرعة . وقرئ : أن ينقاض ، من انقاضت السنُّ : إذا سقطت طولاً . { فأقامه } قيل : مسحه بيده فقام ، وقيل : نقضه وبناه ، وهو بعيد . { قال } له موسى : { لو شئتَ لاتخذتَ عليه أجرًا } نتعشى به ، وهو تحريض له على أخذ الجُعل ، أو تعريض بأنه فُضول ، وكأنه لَمَّا رأى الحِرمَان ومساس الحاجة كان اشتغاله بذلك في ذلك الوقت مما لا يعني ، فلم يتمالك الصبر عليه . قال ابن التين : إن الثالثة كانت نسيانًا لأنه يبعد الإنكار لأمر مشروع ، وهو الإحسان لمن أساء . هـ . وفيه نظر فقد قال القشيري في تفسير الآية : لم يقل موسى : إنك ألْمَمْتَ بمحظور ، ولكن قال : لو شئتَ ، أي : فإن لم تأخذ بسببك فهلا أخذت بسببنا ، فكان أخْذُ الأجر خيرًا من الترك ، ولئن وَجَبَ حقُّهم فَلِمَ أخللت بحقنا ؟ ويقال : إنَّ سَفَرَه ذلك كان سفرَ تأديب ، فَرُدَّ إلى تَحَمُّلِ المشقة ، وإلاَّ فهو نسي ، حيث سقى لبنات شعيب ، وكان ما أصابه من التعب والجوع أكثر ، ولكنه كان في ذلك الوقت محمولاً ، وفي هذا الوقت مُتَحَمِّلا . هـ . قلت : لأن الحق تعالى أراد تأديبه فلم يحمل عنه ، فكان سالكًا محضًا ، وفي وقت السقي : كان مجذوبًا محمولاً عنه . ثم قال القشيري : وكما أن موسى كان يُحب صحبة الخضر لما له فيه من غرض استزادةٍ من العلم ، كان الخضر يحب ترك صحبته إيثارًا للخلوة بالله عنه . هـ . قاله في الحاشية الفاسية . الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه ، ويعيب سفينة وجوده ، بتخريب ظاهره ، حتى لا يقبله أحد ، ولا يُقبل عليه أحد ، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه ، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد ، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد . ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى ، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها ، وما يخف عليها فتحجزها عنه ، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق . ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع قيامًا بآداب العبودية ، وصونًا لكنز أسرار الربوبية . ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه ، فإن أهل القرية أساؤوا بترك ضيافة الخضر ، فقابلهم بالإحسان حيث أقام جدارهم . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر افتراقهما وبان الحكمة في تلك الخوارق