Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 78-82)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { هذا } ، الإشارة إما إلى نفس الفراق ، كقولك : هذا أخوك ، أو إلى الوقت الحاضر ، أي : هذا وقت الفراق . أو إلى السؤال الثالث . و { بيني } : ظرف مضاف إليه المصدر مجازًا ، وقرئ بالنصب ، على الأصل ، و { غَصْبًا } : مصدر نوعي ليأخذ . يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال } الخضر عليه السلام : { هذا فراقُ بيني وبينك } فلا تصحبني بعد هذا ، { سأنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا } أي : سأخبرك بالخبر الباطن ، فيما لم تستطع عليه صبرًا لكونه منكرًا في الظاهر ، فالتأويل : رجوع الشيء إلى مآله ، والمراد هنا : المآل والعاقبة ، وهو خلاص السفينة من اليد العادية ، وخلاص أَبَوَيْ الغلام من شره ، مع الفوز بالبدل الأحسن ، واستخراج اليتيمين للكنز ، وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعته ، ولم يقل : " بتأويل ما رأيت " نوعُ تعريضٍ به ، وعناية عليه السلام . ثم جعل يفسر له ، فقال : { أما السفينة } التي خرقتُها ، { فكانت لمساكين } : ضُعفاء ، لا يقدرون على مدافعة الظلمة ، فسماهم مساكين لذلهم وضعفهم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وأمتْنِي مِسْكِينًا ، واحْشُرْنِي في زُمرةِ المَسَاكِينِ " فلم يُرد مسكنة الفقر ، وإنما أراد التواضع والخضوع ، أي : احشرني مخبتًا متواضعًا ، غير جبار ولا متكبر ، وقيل : كانت السفينة لعشرة إخوة : خمسة زَمْنَى ، وخمسة { يعملون في البحر } . وإسناد العمل إلى الكل ، حينئذ ، بطريق التغليب ، ولأن عمل الوكيل بمنزلة الموكل . { فأردت أن أعيبها } : أجعلها ذات عيب ، { وكان ورائهم ملكٌ } أي : أمامهم ، وقرئ به ، أو خلفهم ، وكان رجوعهم عليه لا محالة ، وكان اسمه : " جلندي بن كركر " وقيل : " هُدَدُ بن بُدَد " ، قال ابن عطية : وهذا كله غير ثابت ، يعني : تسمية الملك . { يأخذُ كلَّ سفينة } صالحة ، وقرئ به ، { غَصْبًا } من أصحابها . وكان حق النظم أن يتأخر بيانُ إرادةِ التعيُّبِ عن خوف الغصب ، فيقول : فكانت لمساكين ، وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة ، فأردت أن أعيبها لأن إرادة التعيب مُسَبَّبٌ عن خوف الغصب ، وإنما قدّم للاعتناء بشأنها إذ هي المحتاجة إلى التأويل ، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرها ، مع توهم رجوعه إلى الأقرب قال البيضاوي : ومبني ذلك - أي : التعيب وخوف الغصب - على أنه متى تعارض ضرران يجب حمل أهونهما بدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد ، غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة . هـ . { وأما الغلامُ } الذي قتلتُه { فكان أبواه مؤمنين } وقد طُبع هو كافرًا ، وإنما لم يصرح بكفره لعدم الحاجة إليه لظهوره من قوله : { فخشينا أن يُرهقهما } : فخفنا أن يغشى الوالدَيْنِ المؤمنَيْنِ { طغيانًا } عليهما { وكفرًا } بنعمتهما لعقوقه وسوء صنيعه ، فَيُلْحِقُهُمَا شرًا ، أو لشدة محبتهما له فيحملهما على طاعته ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر ، فلعله يميلهما إلى رأيه فيرتدا . وإنما خشي الخضر عليه السلام منه ذلك لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على عاقبة أمره ، وقرئ : " فخاف ربك " ، أي : كره سبحانه كراهية من خاف سوء عاقبة الأمر . ويجوز أن تكون القراءة المشهورة من قول الله سبحانه على الحكاية ، أي فكرهنا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا { فأردنا أن يُبدلهما ربُّهما خيرًا منه } بأن يرزقهما بدله ولدًا { خيرًا منه زكاةً } : طهارة من الذنوب والأخلاق الردية ، { وأقربَ رُحْمًا } أي : رحمة وعطفًا ، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على وصول الخير إليهما ، فلذلك قيل : ولدت لهما جارية ، تزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيًا ، هدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم ، وقيل : ولدت سبعين نبيًا ، وقيل : أبدلهما ابنًا مؤمنًا مثلهما . { وأما الجدارُ } الذي أقمتُ { فكان لغلامين يتيمين في المدينة } أي : القرية المذكورة فيما سبق ، ولعل التعبير عنها بالمدينة لإظهار نوع اعتداد بها ، باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح ، قيل : اسم اليتيمين أصرم وصريم . { وكان تحته كنزٌ لهما } من فضة وذهب ، كما في الحديث ، والذم على كنزهما إنما هو لمن لم يؤد زكاته ، مع أن هذه شريعة أخرى . قال ابن عباس : كان لوحًا من ذهب ، مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ؟ وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ؟ وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ؟ وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وقيل : كانت صحفًا فيها علم مدفون . { وكان أبوهما صالحًا } ، فيه تنبيه على أن سَعْيَهُ في ذلك كان لصلاح أبيهما ، وفيه دليل على أن الله تعالى يحفظ أولياءه في ذريتهم ، قيل : كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة أجداد . قال محمد بن المنكدر : إن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده ، ومَسربته التي هو فيها ، والدويرات التي حولها ، فلا يزالون في حفظ الله وستره . وكان سعيد بن المسيب يقول لولده : إني لأزيد في صلاتي من أجلك ، رجاء أن أُحْفَظَ فيك ، ويتلو هذه الآية . وفي الحديث : " ما أحسن أحدٌ الخلافة في ماله إلا أحسن الله الخلافة في تركته " ويؤخذ من الآية : القيام بحق أولاد الصالحين إذ قام الخضر عليه السلام بذلك . { فأراد ربك } أي : مالكك ومُدبر أمرك . وفي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السلام ، دون ضميرهما ، تنبيه له عليه السلام على تحتم كمال الانقياد ، والاستسلام لإرادته سبحانه ، وَوُجوب الاحتراز عن المناقشة فيما برز من القدرة في الأمور المذكورة وغيرها . أراد { أن يبلغا أشُدَّهما } : حُلُمَهُمَا وكمالَ رأيِهِمَا ، { ويستخرجا كنزهما } من تحت الجدار ، ولولا أني أقمته لانقض ، وخرج الكنز من تحته ، قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته ، وضاع بالكلية { رحمةً من ربك } مصدر في موضع الحال ، أي : يستخرجا كنزهما مَرْحُومَيْنِ به من الله تعالى . أو : يتعلق بمضمر ، أي : فعلت ما فعلت من الأمور التي شاهدتها ، { رحمة من ربك } بمن فُعل له أو به . وقد استعمل الخضر عليه السلام غاية الأدب في هذه المخاطبة فنسب ما كان عيبًا لنفسه ، وما كان ممتزجًا له ولله تعالى فإن القتل بلا سبب ظاهرهُ عيبٌ ، وإبداله بخير منه خير ، فأتى بضمير المشاركة ، وما كان كمالاً محضًا ، وهو إقامة الجدار ، نسبه لله تعالى . ثم قال : { وما فعلته } أي : ما رَأَيْتَ من الخوارق { عن أمري } أي : عن رأيي واجتهادي ، بل بوحي إلهي مَلَكي ، أو إلهامي ، على اختلافٍ في نبوته أو ولايته ، { ذلك } أي : ما تقدم ذكره من التأويلات ، { تأويلُ } أي : مآل وعاقبة { ما لم تَسْطِع عليه صبرًا } أي : تفسير ما لم تستطع عليه صبرًا ، فحذف التاء تخفيفًا ، وهو فذلكة لِمَا تقدم ، وفي جعل الصلة غير ما مرَّ تكرير للتنكير عليه وتشديد للعتاب . قيل : كل ما أنكر سيدنا موسى عليه السلام على الخضر قد جرى له مثله ، ففي هذه الأمثلة حجة عليه ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة ، نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت مطروح في اليم ؟ فلما أنكر قتل الغلام وقيل له : أين إنكارك من وكْزك القبطي وقضائك عليه ؟ فلما أنكر إقامة الجدار ، نودي : أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجر ؟ والله تعالى أعلم . رُوِيَ أنه قال له : لو صبرتَ لأتيتُ بك على ألفي عجيبة ، كلها مما رأيت . ولما أراد موسى عليه السلام أن يفارقه ، قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به ، واطلبه لتعمل به . هـ . وفي رواية : قال له : اجعل همتك في معادك ، ولا تخض فيما لا يعنيك ، ولا تأمن الخوفَ ، ولا تيأس الأمْن ، وتدبر الأمور في علانيتك ، ولا تذر الإحسان في قدرتك . فقال له : زدني يا ولي الله ، فقال : يا موسى إياك واللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك ، من غير عَجَب ، ولا تُعير أحدًا بخطيئة بعد الندم ، وابك على خطيئَتك يا ابن عمران ، وإياك والإعجاب بنفسك ، والتفريط فيما بقي من عمرك ، فقال له موسى : قد أبلغت في الوصية ، أتم الله عليك نعمته ، وغمرك في رحمته ، وكلأك من عدوه . فقال الخضر : آمين . فأوصني أنت يا نبي الله ، فقال له موسى : إياك والغضب إلا في الله ، ولا ترضى عن أحد إلا في الله ، ولا تحب لدنيا ولا تبغض لدنيا ، فإنك تخرج من الإيمان وتدخل في الكفر ، فقال له الخضر : قد أبلغت في الوصية يا ابن عمران ، أعانك الله على طاعته ، وأراك السرور في أمرك ، وحببك إلى خلقه ، وأوسع عليك من فضله ، قال موسى : آمين . تنبيه : قد تقدم أن الجمهور على حياة الخضر عليه السلام . وسبب تعميره أنه كان على مقدمة ذي القرنين ، فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة ، فنزل فاغتسل منها ، وشرب من مائها ، فأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد ، فلم يصادفها ، قالوا : وإلياس أيضًا في الحياة ، يلتقيان في كل سنة بالموسم ، واحتج من قال بموت الخضر بقوله - عليه الصلاة والسلام - ، كما في الصحيح ، بعد صلاة العشاء : " أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ ، فَإِنَّه عَلَى رأسِ مِائَةِ سَنَةِ ، لا يَبْقَى ممَنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدًا " ، ويجاب بأن الخضر عليه السلام كان في ذلك الوقت في السحاب ، أو يخصص الحديث به كما يخص بإبليس ومن عَمَّر من غيره . والله تعالى أعلم . الإشارة : الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم ، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله ، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " كما في الحِكَم . فالواجب على المريد ، إذا كان بين يدي الشيخ ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم ، إلا أن يأمره بالكلام ، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت ، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له ، ويطلب تأويله ، فإن الشريعة واسعة ، لها ظاهر وباطن ، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد . وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه ، ولا تأويل فيه ، كالزنا بالمعينة أو اللواط ، وأما ما اختلف فيه ، ولو خارج المذهب ، فلا ينكر عليه ، وكذلك ما فيه تأويل . هذا إن صحت عدالته ، فقد قالوا : إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل . وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه ، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه ، وكذلك غيره من أرباب الأحوال ، يُلتمس لهم أحسن المخارج ، فإن أحوالهم خضرية ، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا . وبالله التوفيق . ثم ذكر قصة ذي القرنين الذي وقع السؤال عنه مع الروح