Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 83-88)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويسألونك } أي اليهود ، سألوه على وجه الامتحان ، أو قريش ، بتلقينهم . والتعبير بالمضارع للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب ، والمراد : ذو القرنين الأكبر ، وكان على عهد إبراهيم عليه السلام ، ويقال : إنه الذي قضى لإبراهيم حين تحاكم إليه في بئر السبع بالشام ، واسمه تبرس ، وقيل : هرديس ، وأما ذو القرنين الأصغر ، بالقرب من زمن عيسى عليه السلام ، واسمه الإسكندر ، وهو صاحب أرسطو الفيلسوف ، وقيل : المراد به هنا الأصغر ، واقتصر عليه المحلِّي . قال الإمام الرازي : والأول أظهر لأن من بلغ مُلكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الأكبر ، كما شهدت به كتب التواريخ . قلت : كلاهما بلغا الغاية القصوى ، وملكا المشارق والمغارب ، أما ذو القرنين الأكبر ، فقيل : إنه كان ملِكًا عادلاً صالحًا ، ملك الأقاليم ، وقهر أهلها من الملوك ، ودانت له البلاد ، وإنه كان داعيًا إلى الله تعالى ، سائرًا في الخَلْق بالمعونة التامة والسلطان المؤيد المنصور ، وكان الخضر على مقدمة جيشه ، بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير . وقيل : كان ابن خالته . وذكر الأزرقي وغيره أنه أسلم على يد إبراهيم عليه السلام ، فطاف معه بالكعبة مع إسماعيل . ورُوي أنه حج ماشيًا ، فلما سمع إبراهيم عليه السلام بقدومه تلقاه ودعا له ، وأوصاه بوصايا . ويقال : إنه أُتي بفرس ليركب ، فقال : لا أركب في بلد فيه الخليل ، فعند ذلك سخّر له السحاب ، وطوى له الأسفار ، فكانت السحاب تحمله وعساكيره وجميع آلاتهم ، إذا ارادوا غزو قوم . وسئل عنه عليّ رضي الله عنه : أكان نبيًا أو ملَكًا - بالفتح - ؟ فقال : لم يكن نبيًا ولا ملَكًا ، ولكن كان عبدًا أحبَّ الله فأحبه الله ، وناصَحَ الله فناصحه ، فسخر له السحاب ، ومدَّ له الأسباب . وقال مجاهد : ملك الأرض أربعةٌ : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان وذو القرنين ، والكافران : نمرود وبختنصر . هـ . وأما ذو القرنين الأصغر ، وهو الإسكندر اليوناني ، فرُوِيَ انه لما مات أبوه جمع مُلْكَ الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ، ثم مضى حتى أتى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر ، فبنى الإسكندرية وسماها باسمه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل ، وورد بيت المقدس وذبح في مذبحةٍ ، ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ، ودان له العراقيون والقبط والبربر ، واستولى على ملوك الفرس ، وقصد السند وفتحه ، وبنى مدينة سرنديب وغيرها ، ثم قصد الصين ، وغزا الأمم البعيدة ، ورجع إلى العراق ومرض ومات . رُوِيَ أن أهل النجوم : قالوا له : إنك تموت على أرض من حديد ، وتحت سماء من خشب ، فبلغ بابل ، ورعُف ، وسقط عن دابته ، فبسطت له دروع من حديد ، فنام عليها ، فآذته الشمس ، فأظلوه بترس من خشب ، فنظر ، فقال : هذه أرض من حديد وسماء من خشب ، فمات ، وهو ابن ألف وستمائة سنة ، وقيل : ثلاثة آلاف ، قال ابن كثير : وهو غريب . قلت : والذي لابن عساكر : أنه عاش ستًا وثلاثين سنة ، وأنه كان بعد داود وسليمان - عليهما السلام - ثم قال ابن عساكر بعد كلام : وإنما بينّا هذا لأن كثيرًا من الناس يعتقدون أنهما واحد ، وأن المذكور في القرآن العظيم هو المتأخر ، فيقع بذلك خطأ كبير . كيف لا ، والأول كان عبدًا صالحًا مؤمنًا ، ملكًا عادلاً ، وزيره الخضر عليه السلام ، وقد قيل : إنه كان نبيًا ، وأما الثاني فقد كان كافرًا ، وزيره أرسْطَاطَاليس الفيلسوف ، وقد كان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة ، فأين هذا من ذلك ؟ ! . هـ . فتأمله مع ما ذكر في اللُباب من تعزيته أمه ، مما يدل على إسلامه ، قال فيه : لما علم ذو القرنين أن الموت استعجله ، دعا بكاتبه ، فقال له : اكتب تعزيتي لأمي ، بسم الله الرحمن الرحيم ، من الإسكندر بن قيصر ، رفيق أهل الأرض بجسده وأهل السماء بروحه ، إلى أمي رومية ذات الصفا ، التي لم تتمتع بثمرتها في دار الفناء ، وعما قريب تجاوره في دار البقاء ، يا أماه أسألك بودك لي وودي لك ، هل رأيت لِحَيِّ قرارًا في الدار الدنيا ؟ وانظري إلى الشجر والنبات يخضر ويبتهج ، ثم يهشم ويتناثر ، كأن لم يغنَ بالأمس ، وإني قد قرأت في بعض الكتب فيما أنزل الله : يا دنياي ارحلي بأهلِكِ ، فإنكِ لستِ لهم بدار ، إنما الدنيا واهبة الموت ، موروثة الأحزان ، مفرقة الأحباب ، مخربة العمران ، وكل مخلوق في دار الأغيار ليس له قرار . انظر بقية كلامه فيه . ولا يلزم من صحبته أرسطاطاليس أن يكون على دينه . والله تعالى أعلم . واختُلِفَ في ذي القرنين المذكور في القرآن : هل كان نبيًا أو ملَكًا - بفتح اللام - أو ملِكًا - بالكسر - وهو الصحيح ، واختلف في وجه تسميته بذي القرنين فقيل : كان في رأسه أو تاجه ما يشبه القرنين ، وقيل : لأنه كان له ذؤابتان ، وقيل : لأنه دعا الناس إلى الله عزّ وجلّ ، فضُرب بقرنه الأيمن ، ثم دعا إلى الله فضرب بقرنه الأيسر ، وقيل : لأنه رأى في منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس ، وقيل : لأنه انقرض في عهده قرنان ، وقيل : لأنه سخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتحوطه الظلمة من ورائه . هـ . ثم ذكر الحق تعالى الجواب ، فقال : { قل سأتلو عليكم } أي : سأذكر لكم { منه ذكرًا } أي : خبرًا مذكورًا ، أو قرآنا يخبركم بشأنه ، والسين للتأكيد ، والدلالة على التحقق المناسب لمقام تأييده صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه بإنجاز وعده ، لا للدلالة على أن التلاوة ستقع في المستقبل لأن هذه الآية نزلت موصولة بما قبلها ، حين سألوه صلى الله عليه وسلم عنه ، وعن الروح ، وعن أهل الكهف ، فقال : غدًا أُخبركم ، فتأخر الوحي كما تقدم ، ثم نزلت السورة مفصلة . ثم شرع في تلاوة ذلك الذكر ، فقال : { إِنا مكنَّا له في الأرض } أي : مكنا له فيها قوة يتصرف فيها كيف يشاء ، بتيسير الأسباب وقوة الاقتدار ، حيث سخر له السحاب ، ومدّ له في الأسباب ، وبسط له النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ، وسهل له السير في الأرض وذللت له طرقها ، { وآتيناه من كل شيء } أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه { سببًا } أي : طريقًا يُوصله إليه من علم ، أو قدرة ، أو آلة ، فأراد الوصول إلى الغرب { فأتْبَع سببًا } : طريقًا يوصله إليه . { حتى إذا بلغ مَغْرِب الشمس } أي : منتهى الأرض من جهة المغرب ، بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي ، الذي فيه الجزاير المسماة بالخالدات ، التي هي مبدأ الأطوال على أحد القولين . { وجدَها } أي : الشمس ، { تغربُ في عينٍ حَمِئَةٍ } أي : ذات حمأ ، وهو الطين الأسود ، وقرئ : حامية ، أي : حارة ، رُوي أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية ، وعنده ابن عباس ، فقال ابن عباس : حمئة ، فقال : معاوية لعبد الله بن عمرو بن العاص : كيف تقرأ ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب ؟ قال : في ماء وطين ، كذا نجده في التوراة ، فوافق قول ابن عباس رضي الله عنه . وليس بينهما تنافٍ ، لجواز كون العين جامعة بين الوصفين ، وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس بما سمعه من كعب الأحبار ، مع أن قراءته أيضًا متواترة ، فلكون قراءة ابن عباس قطعية في مدلولها ، وقراءته محتملة ، ولعله لَمَّا بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك ، إذ ليس في مطمح نظره غير الماء ، كما يلوح به قوله تعالى : { وجدها تغرب } ، ولم يقل : كانت تغرب فإن الشمس في السماء لا تغرب في الأرض . { ووجد عندها } أي : تلك العين { قومًا } قيل : كان لباسهم جلود الوحش ، وطعامهم ما لفظه البحر ، وكانوا كفارًا ، فخيّره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل ، وأن يدعوهم إلى الإيمان ، فقال : { قلنا يا ذا القرنين إِما أن تعذب } بالقتل من أول الأمر ، { وإِمّا أن تتخذ فيهم حُسْنًا } أمرًا ذا حُسْنٍ ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ، واستدل بهذا على نبوته ، ومن لم يقل بها قال : كان بواسطة نبي كان معه في ذلك العصر ، أو إلهامًا ، بعد أن كان التخيير موافقًا لشريعة ذلك النبي ، { قال } ذو القرنين ، لمن كان عنده : مختارًا للشق الأخير ، وهو الدعاء إلى الإسلام : { أمّا من ظَلَم } في نفسه ، وأصرّ على الكفران ، ولم يقبل الإيمان { فسوف نُعذِبُه } بالقتل . وعن قتادة : أنه كان يطبخ من كفر في القدور ، { ثم يُرَدُّ إلى ربه } في الآخرة { نُعَذِّبُهُ } فيها { عذابًا نُكْرًا } منكراً فظيعًا ، لم يُعهد مثله ، وهو عذاب النار . وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق الوحي إليه ، أي : حيث لم يقل : " ثم يرد إليك " ، وأن مقاولته كانت مع النبي ، أو مع من عنده من أهل مشورته . { وأما مَنْ آمن } بموجب دعوته { وعَمِلَ } عملاً { صالحًا } حسبما يقتضيه الإيمان { فله } في الدارين { جزاء الحُسنى } ، أي : المثوبة الحسنى ، أو الفعلة الحسنى جزاء ، على قراءة النصب ، على أنه مصدر مؤكد للجملة ، قُدِّم عليه المبتدأ اعتناءً ، أو حال ، أو تمييز . { وسنقول له من أمرنا } أي : مما نأمر به { يُسْرًا } : سهلاً ميسرًا ، غير شاق عليه . والله تعالى أعلم . الإشارة : ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه ، ودعا إلى الله ، ونصح لله ، مكّنه الله تعالى من الأرض ، ويسر له أموره ، حتى قطع مشارقها ومغاربها ، وكذلك من انقطع إلى الله ، ورفع همته إلى مولاه ، وأرشد الخلق إلى الله ، تكون همته قاطعة ، يقول للشيء كن فيكون ، بقدرة الله وقدره . وسخر له الكون بأسره ، يكون عند أمره ونهيه " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك " ، يقول الله تعالى ، في بعض كلامه : " يا عبدي كن لي كما أريد ، أكن لك كما تريد " . قال القشيري : ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا ، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها ، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها ، ويحظر أقطارها ومناكبها ، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة ، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب ، أو غيره من قطع مسافة ، أو استتار عن أبصار ، وتصديق مأمول ، وتحقيق سؤال ، وإجابة دعاء ، وكشف بلاء ، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره ، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا ، ويمنع قومًا عما شاؤوا ، فلهم من الحق تحقيق أمل ، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات ، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ ، فالله يحقق فيهم همتهم . هـ . قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته ، في كل وقت وحين ، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا ، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا ، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر سير ذي القرنين إلى جهة المشرق