Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 92-101)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { بين السدين } : مفعول ، لا ظرف لأنه يستعمل متصرفًا . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ثم أتْبَعَ } ذو القرنين { سببًا } : طريقًا ثالثًا بين المشرق والمغرب ، سالكًا من الجنوب إلى الشمال ، { حتى إذا بلغ بين السدين } : بين الجبلين ، اللذين سُدَّ ما بينهما ، وهو منقطع أرض الترك ، مما يلي المشرق ، لا جبال أرمينية وأذربيجان ، كما توهم ، وفيه لغتان : الضم والفتح ، وقيل : ما كان من فعل الله فهو مضموم ، وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح . { وجد من دونهما } أي : من ورائهما : مما يلي بر الترك ، { قومًا } : أمة من الناس { لا يكادون يفقهون } : يفهمون { قولاً } لغرابة لغتهم ، وقلة فطنتهم ، وقرئ بالضم رباعيًا ، أي : لا يُفصحون بكلامهم ، واختلف فيهم ، قيل : هم جيل من الترك قال السدي : الترك سُرْبة من يأجوج ومأجوج ، خرجت ، فضرب ذو القرنين السد ، فبقيت خارجة . قلت : ولعلهم طلبوا منه ذلك ، حين اعتزلوا قومهم ، ثم قال : فجميع الترك منهم . وعن قتادة : أنهم ، - أي : يأجوج ومأجوج - اثنتان وعشرون قبيلة ، سد ذو القرنين على إحدى وعشرين ، وبقيت واحدة ، فسُموا الترك لأنهم تُرِكُوا خارجين . قال أهل التاريخ : أولاد نوح عليه السلام ثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أَبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخرز والصقالبة ويأجوج ومأجوج . هـ . وقُرِئ بالهمز فيهما لأنه من أجيج النار ، أي : ضوؤها وشررها ، شُبهوا به في كثرتهم وشدتهم ، وهو غير منصرف للعجمة والعلَمية . { قالوا يا ذا القرنين } ، إما أن يكون قالوه بواسطة ترجمان ، أو يكون فَهم كلامهم ، فيكون من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب ، فقالوا له : { إِن يأجوج ومأجوج } ، قد تقدم أنهم من أولاد يافث . وما يقال : إنهم من نطفة احتلام آدم لم يصح ، واختلف في صفاتهم ، فقيل : في غاية صغر الجثة وقصر القامة ، لا يزيد قدمهم على شبر ، وقيل : في نهاية عِظم الجسم وطول القامة ، تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعًا ، وفيهم من عرضه كذلك . " قال عبد الله بن مسعود : سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج ، فقال : هم أمم ، كل أمة أربع مائة ألف ، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذَكَر من صلبه ، كلهم قد حمل السلاح ، قيل : يا رسول الله صفهم لنا ، قال : هم ثلاثة أصناف : صنف منهم أمثال الأرز - وهو شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وصنف يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مُقَدَّمَتُهُمْ بالشام ، وسَاقَتُهُمْ بخراسان ، يشربون أنهار المشرق ، وبحيرة طبرية " . فقالوا له : { إِنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } أي : في أرضنا ، بالقتل ، والتخريب ، وإتلاف الزرع ، قيل : كانوا يخرجون أيام الربيع ، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ، ولا يابسًا إلا احتملوه ، وكانوا يأكلون الناس أيضًا . { فهل نجعلُ لك خَرْجًا } أي : جُعْلاً من أموالنا { على أن تجعلَ بيننا وبينهم سدًّا } بالفتح وبالضم ، أي : حاجزًا يمنعهم منا ؟ { قال ما مكَّني } - بالفك وبالإدغام - أي : ما مكنني { فيه ربي } ، وجعلني في مكينًا قادرًا من الملك والمال وسائر الأسباب ، { خيرٌ } من جُعْلِكم ، فلا حاجة لي به ، { فأَعينوني بقوة } الأبدان وعمل الأيدي ، كصُنَّاع يحسنون البناء والعمل ، وبآلاتٍ لا بد منها في البناء ، { أجعلْ بينكم وبينهم رَدْمًا } أي : حاجزًا حصينًا ، وبرزخًا مكينًا ، وهو أكبر من السد وأوثق ، يقال : ثوب مُردم إذا كان ذا رقاع فوق رقاع ، وهذا إسعاف لهم فوق ما يرجون . { آتُوني زُبَرَ الحديد } : جمع زبرة ، وهي القطعة الكبيرة ، وهذا لا ينافي رد خراجهم لأن المأمور الإيتاء بالثمن أو المناولة ، كما ينبئ عنه قراءة : " ائتوني " بوصل الهمزة ، أي : جيئوني بزبر الحديد ، على حذف الباء ، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة ، دون الخراج على العمل . قال القشيري : استعان بهم في الذي احتاج إليه منهم ، ولم يأخذ منهم عُمالة لما رأى أن من الواجب عليه حق الحماية على حسب المُكنة . هـ . ولعل تخصيص الأمر بالإتيان بها دون سائر الآلات من الفحم والحَطب وغيرهما لأن الحاجة إليها أمسُّ لأنها الركن في السد ، ووجودها أعز . قيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء ، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب ، والبنيان من زبر الحديد ، وجعل بيْنهما الفحم والحطب ، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، وكان بينهما مائة فرسخ ، وذلك قوله تعالى : { حتى إذا ساوى بين الصَّدَفَينِ } ، وقرئ بضمهما ، أي : ما زال يبني شيئًا فشيئًا حتى إذا جعل ما بين ناصيتي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في السُّمْك . قيل : كان ارتفاعه : مائتي ذراع ، وعرضه : خمسون ذراعًا . وقرئ { سوَّى } بالتشديد ، من التسوية . فلما سوّى بين الجبلين بالبناء ، { قال } للعَمَلة : { انفخوا } النيران في الحديد المبني ، ففعلوا { حتى إذا جعله } أي : المنفوخ فيه { نارًا } أي : كالنار في الحرارة والهيئة . وإسناد الجعل إلى ذي القرنين ، مع أنه من فعل العملة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك ، وهم بمنزلة الآلة . { قال } للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها : { آتُوني أُفرغ عليه قِطْرًا } أي : آتوني نحاسًا مُذابًا أُفرغه عليه ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه ، لِمَا تقدم . { فما اسطاعوا } أي : استطاعوا { أن يَظْهَرُوه } أيْ : يعلوه بالصعود لارتفاعه ، والفاء فصيحة ، أي : ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر ، فأفرغوه عليه ، فاختلط والتصق بعضه ببعض ، فصار جبلاً صلَدًا ، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه { فما اسطاعوا أن يَظْهَرُوه } لارتفاعه وملاسته ، { وما استطاعوا له نَقْبًا } لصلابته ، وهذه معجزة له لأن تلك الزُبَر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها ، فضلاً عن إفراغ القطر عليها ، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال . والله على كل شيء قدير . { قال } ذو القرنين ، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم : { هذا } أي : السد ، أو تمكينه منه ، { رحمةً } عظيمة { من ربي } على كافة العباد ، لا سيما على مجاوريه ، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق ، بل هو إحسان إلهي محض ، وإن ظهر بمباشرتي . والتعرض لوصف الربوبية لتربية معنى الرحمة . { فإذا جاء وعدُ ربي } : وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج ، أو بقيام الساعة بأن شارف قيامُها ، { جعله } أي : السد المذكور ، مع متانته ورصانته ، { دكّاءَ } : مدكوكًا مبسوطًا مستويًا بالأرض ، وفيه بيان عظمة قدرته تعالى ، بعد بيان سعة رحمته ، { وكان وعد ربي حقًا } : كائنًا لا محالة . رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ يأجُوجَ ومأجُوجَ يَحْفِرُون السد ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ : ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرونه غَدًا ، فيُعِيدُهُ اللهُ كأشَدّ مَا كَانَ ، حَتَّى إِذَا بَلَغتْ مُدَّتُهُمْ ، حَفَرُوا ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ ، قَالَ الذِي عَلَيْهم : ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ الله ، فَيَعُودُونَ إِلَيْه ، وهُوَ على هَيْئَتِهِ كما تَرَكُوهُ ، فَيَحْفِرُونَهُ فيخْرُجُونَ عَلَى النَّاس " وسيأتي في الأنبياء تمام قصة خروجهم ، إن شاء الله ، وهذا آخر كلام ذي القرنين . قال تعالى : { وتركنا بعضهم يومئذ } : يوم مجيء الوعد ، ويخرجون ، { يموجُ في بعض } يزدحمون في البلاد ، أو : يموج بعض الخلق في بعض ، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم ، حيارى من شدة الهول . رُوي أنهم يأتون البحر فيشربونه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الشجر وما ظفروا به ، ممن لم يتحصن منهم من الناس ، ولا يقدرون على دخول مكة والمدينة وبيت المقدس ، ثم يبعث الله عليهم مرضًا في رقابهم ، فيموتون مرة واحدة ، فيرسل الله طيرًا فترميهم في البحر ، ثم يرسل مطرًا تغسل الأرضَ منهم ، ثم تُوضع فيها البركة ، وهذا بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام ، ثم تنقرض الدنيا كما قال تعالى : { ونُفخ في الصُّور } لقيام الساعة ، { فجمعناهم جمعًا } ، وسكت الحق تعالى عن النفخة الأولى اكتفاء بذكرها في موضع آخر ، أي : جمعنا الخلائق بعدما تفرقت أوصالهم ، وتمزقت أجسادهم ، في صعيد واحد للحساب والجزاء ، جمعًا عجيبًا لا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ ، { وعرَضْنَا جهنم } أظهرناها وأبرزناها { يومئذ } أي : يوم إذ جمعنا الخلائق كافة ، { للكافرين } منهم ، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا ، { عَرضًا } فظيعًا هائلاً لا يقدر قدره ، وخص العَرض بهم ، وإن كان بمرْأى من أهل الموقف قاطبة لأن ذلك لأجلهم . ثم ذكر وصفهم بقوله : { الذين كانت أعينهم } وهم في الدنيا { في غطاءٍ } كثيف وغشاوة غليظة { عن ذكري } : عن سماع القرآن وتدبره ، أو : عن ذكري بالتوحيد والتمجيد ، أو كانت أعين بصائرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني ، { وكانوا لا يستطيعون سمعًا } أي : وكانوا مع ذلك لفرط تصامُمِهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، لا يستطيعون استماعًا منه لذكري وكلامي ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية ، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار . الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد ، أقلها سبع سنين ، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة . وفيها فوائد ، منها : زيارة الإخوان ، والمذاكرة معهم ، وهي ركن في الطريق ، ومنها : نفع عباد الله ، إن كان أهلاً لتذكيرهم ، فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس . ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته ، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا ، وتلوينًا غريبًا ، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد ، فالمريد كالماء ، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر ، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى . ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه ، أو يزيد به إلى ربه . رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب ، وليس عليهم أُمراء ، وليس بينهم قضاة ، ولا يختلفون ولا يتنازعون ، ولا يقتتلون ، ولا يضحكون ولا يحزنون ، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس ، أطول الناس أعمارًا ، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ ، فعجب منهم ، وقال : خبِّروني بأمركم ، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم ، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا ، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم ، ولا فينا إلا أمين مؤتمن . قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر . قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضًا . قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد ، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية . قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع ، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية . قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار . قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء . فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله ، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم ، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويُواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويُحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويَصلُون أرحامهم ، ويُؤدون أمانتهم ، ويحفظون وقت صلاتهم ، ويُوفون بعهدهم ، ويَصدُقون في مواعدهم ، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم ، ما كانوا أحياءًا ، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم . فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم ، ولكن لم أُومر بالمقام . هـ . ذكره الثعلبي . وقال في القوت : قوله تعالى ، في صفة أعدائه المحجوبين : { كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره ، ناظرون إلى غيبه ، قال تعالى في ضده : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [ هُود : 20 ] ، وقال : { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ … } [ هُود : 24 ] الآية . هـ . وسبب غطاء القلوب عن الاستماع والاستبصارهو اتباع الهوى