Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-21)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { إذ انتبذت } : بدل اشتمال من مريم ، على أن المراد بها نبؤها ، فإن الظرف مشتمل على ما فيها ، وقيل : بدل الكل ، على أن المراد بالظرف ما وقع فيه . وقيل : " إذ " ظرف لنبأ المقدر ، أي : اذكر نبأ مريم حين انتبذت لأن الذكر لا يتعلق بالأعيان ، لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبأها عند انتباذها فقط ، بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستثناء داخل في حيز الظرف متمم للنبأ . و { مكانًا } : مفعول بانتبذت ، باعتبار ما فيه من معنى الإتيان ، أي : اعتزلت وأتَتْ مكانًا شرقيًا ، أو ظرف له ، أي : اعتزلت في مكان شرقي . و { بَشرًا } : حال . وجواب { إن كنت } : محذوف ، أي : إن كنت تقيًا فإني عائذة بالرحمن منك . و { بَغِيًّا } أصله : بغوي ، على وزن فعول ، فأدغمت الواو - بعد قلبها ياء - في الياء ، وكسرت الغين للياء ، و { لنجعله } : متعلق بمحذوف ، أي : ولنجعله آية فعلنا ذلك ، أو معطوف على محذوف ، أي : لنُبين لهم كمال قدرتنا ولنجعله … الخ . أو على جملة : { هو عليّ هين } لأنها في معنى العلة ، أي : كذلك قال ربك لقدرتنا على ذلك ولنجعله … الخ . يقول الحقّ جلّ جلاله : { واذكرْ } يا محمد { في الكتابِ } : القرآن ، والمراد هذه السورة الكريمة لأنها هي التي صُدرت بذكر زكريا ، واستتبعت بذكر قصة مريم لما بينهما من الاشتباك . أي : اذكر في الكتاب نبأ { مريم إِذ انتبذتْ } حين اعتزلت { من أهلها } وأتت { مكانًا شرقيًا } من بيت المقدس ، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة ، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة . وقيل : قعدت في مشربة لتغتسل من الحيْض ، محتجبة بشيء يسترها ، وذلك قوله تعالى : { فاتخذتْ من دونهم حجابًا } ، وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، وإذا طهرت عادت إلى المسجد . فبينما هي تغتسل من الحيض ، متحجبةً دونهم ، أتاها جبريل عليه السلام في صورة آدمي ، شاب أمرد ، وضيء الوجه . قال تعالى : { فأرسلنا إِليها رُوحنا } : جبريل عليه السلام ، عبَّر عنه بذلك توفية للمقام حقه . وقرئ بفتح الراء لكونه سببًا لِمَا فيه روح العباد ، يعني اتباعه والاهتداء به ، الذي هو عدة المقربين في قوله : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقِعَة : 88 ، 89 ] . { فتمثَّل لها بشرًا سويًّا } : سَويّ الخَلق ، كامل البنية ، لم يفقد من حِسان نعوت الآدمية شيئًا ، وقيل : تمثل لها في صورة شاب تِرْبٍ لها ، اسمه يوسف ، مِنْ خدَم بيت المقدس ، وإنما تمثل لها في تلك الصورة الجميلة لتستأنس به ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى إذ لو ظهر لها على صورة الملَكية ، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته . وأما ما قيل من أن ذلك لتَهيج شهوتُها ، فتنحدر نطفتها إلى رحمها ، فغلط فاحش ، ينحو إلى مذهب الفلاسفة ، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم ، يُكذبه قوله تعالى : { قالت إِني أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقيًا } ، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه ، فضلاً عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة . نعم يمكن أن يكون ظهر على ذلك الحُسن الفائق والجمال اللائق لابتلائها واختبار عِفّتها ، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه . وذِكْرُ عنوان الرحمانية للمبالغة في العِيَاذ به تعالى ، واستجلاب آثر الرحمة الخاصة ، التي هي العصمة مما دهمها . قاله أبو السعود . وقولها : { إِن كنتَ تَقيًّا } أي : تتقي الله فتُبَالى بالاستعاذة به . { قال إِنما أنا رسولُ ربك } أي : لستُ ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر ، وإنما أنا رسول من استعذت برحمانيته { لأهَبَ لك غُلامًا } أي : لأكون سببًا في هبة الغلام ، أو : ليهب لك ربُك غُلامًا - في قراءة الياء - . والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتها ، والإشعار بعلية الحكم فإن هبة الغلام لها من أحكام تربيتها . وقوله : { زكيًّا } أي : طاهرًا من العيوب صالحًا ، أو تزكو أحواله وتنمو في الخير ، من سن الطفولية إلى الكبر . { قالت أنَّى يكونُ لي غلامٌ } كما وصفتَ ، { و } الحال أنه { لم يَمْسَسني بشرٌ } بالنكاح ، { ولم أكُ بغيًا } زانية فاجرة تبتغي الرجال ؟ { قال } لها الملك : { كذلك } أي : الأمر كما قلتُ لك { قال ربكِ هو عليَّ هيِّنٌ } أي : هبة الغلام من غير أن يمسسك بشرٌ هين سهل على قدرتنا ، وإن كان مستحيلاً عادة لأني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط ، بل أمرنا بين الكاف والنون ، { و } إنما فعلنا ذلك { لنجعله آيةً للناس } يستدلون به على كمال قدرتنا . والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الجلالة ، { و } لنجعله { رحمةً } عظيمة كائنة { منا } عليهم ، ليهتدوا بهدايته ، ويُرشدوا بإرشاده . { وكان } ذلك { أمرًا مقضيًا } في الأزل ، قد تعلق به قضاء الله وقدره ، وسُطِّر في اللوح المحفوظ ، فلا بُدّ من جريانه عليك ، أو : كان أمرًا حقيقيًا بأن يقضى ويفعل لتضمنه حِكَمًا بالغة وأسرارًا عجيبة . والله تعالى أعلم . الإشارة : لا تظهر النتائج والأسرار إلا بعد الانتباذ عن الفجار ، وعن كل ما يشغل القلب عن التذكار ، أو عن الشهود والاستبصار ، فإذا اعتزل مكانًا شرقيًا ، أي : قريبًا من شروق الأنوار والأسرار ، بحيث يكون قريبًا من أهل الأنوار ، أو بإذنهم ، أرسل الله إليه روحًا قدسيًا ، وهو وارد رباني تحيا به روحُه وسرُه وقلبُه وقالبُه ، فيهب له عِلمًا لدنيا ، وسرًا ربانيًا ، يكون آية لمن بعده ، ورحمة لمن اقتدى به وتبعه . وبالله التوفيق . ثمَّ ذكر حملها وولادتها وما كان من شأنها مع قومها