Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 22-33)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { رُطبًا } : تمييز ، فيمن أثبت التاءين ، أو حذف إحداهما ، ومفعول به ، فيمن قرأ بتاء واحدة مع كسر القاف . يقول الحقّ جلّ جلاله : { فحملَتْهُ } بأن نفخ جبريل في درعها ، فدخلت النفخة في جوفها . قيل : إن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه ، وقيل : نفخ عن بُعد ، فوصل الريح إليها فحملت في الحال ، وقيل : إن النفخة كانت في فيها ، وكانت مدة حملها سبعة أشهر ، وقيل : ثمانية . ولم يعش ولد من ثمانية . وفي ابن عطية : تظاهرت الروايات أنها ولدت لثمانية أشهر ، ولذلك لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظًا لخاصية عيسى ، فتكون معجزة له . هـ . وقيل : تسعة أشهر . وقيل : ثلاث ساعات ، حملته في ساعة ، وصُور في ساعة ، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس . وقيل : ساعة ، ما هو إلا أن حملت فوضعت ، وسنها حينئذ ثلاث عشرة سنة ، وقيل : عشر سنين ، وقد حاضت حيضتين . { فانتبذت به } أي : فاعتزلت ملتبسة به حين أحست بقرب وضعها ، { مكانًا قَصيًّا } : بعيدًا من أهلها وراء الجبل ، وقيل : أقصى الدار . { فأجاءها المخاضُ } فألجأها المخاض . وقرئ بكسر الميم . وكلاهما مصدر ، مَحَضتِ المرأة : إذا تحرك الولد في بطنها للخروج ، { إِلى جِذْعِ النخلةِ } لتستتر به ، أو لتعتمد عليه عند الولادة ، وهو ما بين العِرق والغصن . وكانت نخلة يابسة ، لا رأس لها ولا قعدة ، قد جيء بها لبناء بيت ، وكان الوقت شتاء ، والتعريف في النخلة إما للجنس أو للعهد ، إذ لم يكن ثَمَّ غيرها ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها ، وليطعمها الرطب ، الذي هو من طعام النفساء الموافق لها . { قالت } حين أخذها وجع الطلق : { يا ليتني متُّ } بكسر الميم ، من مات يُمَاتُ ، وبالضم ، من مات يموت ، { قبل هذا } الوقت الذي لقيتُ فيه ما لقيت ، وإنما قالته ، مع أنها كانت تعلم ما جرى لها مع جبريل عليه السلام من الوعد الكريم استحياء من الناس ، وخوفًا من لائمتهم ، أو جريًا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر ، كما رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَةً من الأرض ، فقال : ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئًا " . وقال بلال : ليت بلالاً لم تلده أمه . ثم قالت : { وكنتُ نسْيًا } أي : شيئًا تافهًا شأنه أن يُنسى ولا يُعتد به ، { منسيًّا } لا يخطر ببال أحد من الناس . وقُرئ بفتح النون ، وهما لغتان نِسي ونَسْي ، كالوَتْر والوِتْر . وقيل : بالكسر : اسم ما ينسى ، وبالفتح : مصدر . { فناداها } أي : جبريل عليه السلام { مِنْ تحتِها } ، قيل : إنه كان يقبل الولد من تحتها ، أي : من مكان أسفل منها ، وقيل : من تحت النخلة ، وقيل : ناداها عيسى عليه السلام ، ويرجحه قراءة من قرأ بفتح الميم ، أي : فخاطبها الذي تحتها : { أن لا تحزني } ، أو : بألا تحزني ، على أنَّ " أنْ " مفسرة ، أو مصدرية ، حذف عنها الجار . { قد جعل ربك تحتكِ } أي : بمكان أسفل منك { سَرِيًا } أي : نهرًا صغيرًا ، حسبما رُوي مرفوعًا . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض ، فظهرت عين ماء عذب ، فجرى جدولاً . وقيل : فعله عيسى ، أي : ضرب برجله فجرى ، وقيل : كان هناك نهر يابس - أجرى الله تعالى فيه الماء - ، كما فعل مثله بالنخلة ، فإنها كانت يابسة لا رأس لها ، فأخرج لها رأسًا وخُوصًا وتمرًا . وقيل : كان هناك نهرُ ماء . والأول أظهر لأنه الموافق لبيان إظهار الخوارق ، والمتبادر من النظم الكريم . وقيل : { سريًا } أي : سيدًا نبيلاً رفيعَ الشأن جليلاً ، وهو عيسى عليه السلام ، والتنوين حينئذ للتفخيم . والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي . والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية . ثم قال : { وهُزّي إِليك } أي : حركي النخلة إليك ، أي : جاذبة لها إلى جهتك . فهَزُّ الشيء : تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكًا عنيفًا ، والمراد هنا ما كان بطريق الجذب والدفع . والباء في قوله : { بجذع النخلة } : صلة للتأكيد ، لقول العرب : هزَّ الشيء وهز به ، أو للإلصاق . فإذا هززت النخلة { تَسَّاقَط } أي : تتساقط . وقُرئ : تساقِطَ ، وتُسْقِط ، أي : النخلة عليك إسقاطًا متواترًا بحسب تواتر الهز { رُطبًا جنيًا } أي : طريًّا ، وهو ما قطع قبل يبسه . فعيل بمعنى مفعول ، أي : مجنيًا صالحًا للاجتناء . { فكُلي } من ذلك الرطب { واشربي } من ذلك السري ، { وقَرّي عينًا } وطيبي نفسًا وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك ، فإنه تعالى قد نزه ساحتك عن التُهم ، بما يفصح به لسان ولدك من التبرئة . أو : وقري عينًا بحفظ الله ورعايته في أمورك كلها . وقرة العين : برودتها ، مأخوذ من القرّ ، وهو البرد لأن دمع الفرح بارد ، ودمع الحزن سُخن ، ولذلك يقال : قرة العين للمحبوب ، وسُخنة العين للمكروه . { فإِما تَرَينَّ من البشر أحدًا } آدميًا كائنًا من كان { فقولي } له إن استنطقكِ أو لامك : { إِني نذرتُ للرحمن صومًا } أي : صمتًا ، وقُرئ كذلك ، وكان صيامهم السكوت ، فكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الطعام . وذكر ابن العربي في الأحوذي : أن نبينا - عليه الصلاة والسلام - اختص بإباحة الكلام لأمته في الصوم ، وكان محرمًا على من قبلنا ، عكس الصلاة . هـ . قالت : { فلن أُكلِّمَ اليوم إِنسيًّا } أي : بعد أن أخبرتكم بنذري ، وإنما أكلم الملائكة أو أناجي ربي . وقيل : أُمرت بأن تُخبر عن نذرها بالإشارة . قال الفراء : العرب تُسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلامًا ، ما لم يُؤكّد بالمصدر ، فإذا أُكد لم يكن إلا حقيقة الكلام . هـ . وإنما أُمرت بذلك ونذرته لكراهة مجادلة السفهاء ومقاولتهم ، وللاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن . { فأتت به قومها } عندما طَهُرت من نفاسها ، { تحملُه } أي : حاملة له . قال الكلبي : احتمل يوسف النجار - وكان ابن عمها - مريمَ وابنها عيسى ، فأدخلهما غارًا أربعين يومًا ، حتى تَعَلّتْ من نفاسها ، ثم جاءت به تحمله بعد أربعين يومًا ، وكلمها عيسى في الطريق ، فقال : يا أمه ، أبشري ، فإني عبد الله ومسِيحُه . فلما رآها أهلُها ، بَكَوا وحزنوا ، وكانوا قومًا صالحين . { قالوا يا مريمُ لقد جئتِ } أي : فعلت { شيئًا فَرِيًّا } : عظيمًا بديعًا منكرًا ، من فَرَى الجلد : قطعه . قال أبو عبيدة : كل فائق من عَجَب أو عمل فهو فَرِيّ . قال النبي صلى الله عليه وسلم : في حق عمر رضي الله عنه : " فلم أرَ عَبْقَرِيًا من النَّاس يَفْرِي فَرِيَّة " ، أي : يعمل عمله . { يا أخت هارون } ، عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله ، أي : كانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة ، وكان بينها وبينه ألفُ سنة . أو يا أخت هارون في الصلاح والنسك ، وكان رجلاً صالحًا في زمانهم اسمه هارون ، فشبهوها به . ذُكِرَ لما مات تبع جنازته أربعون ألفًا ، كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل . وقيل : إن هارون الذي شبهوها به كان أفسق بني إسرائيل ، فشتموها بتشبيهها به . { ما كان أبوك } عمران { امْرأَ سَوْءٍ وما كانت أُمك بغيًا } ، فمن أين لك هذا الولد من غير زوج ؟ . هذا تقرير لكون ما جاءت به فريًا منكرًا ، أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش الفواحش . { فأشارتْ إِليه } أي : إلى عيسى أن كلموه ، ولم تكلمهم وفاء بنذرها ، وإشارتها إليه من باب الإدلال ، رجوعًا لقوله لها : { وقرّي عينًا } ، ولا تقر عينها إلا بالوفاء بما وعُدت به ، من العناية بأمرها والكفاية لشأنها ، وذلك يقتضي انفرادها بالله وغناها به ، فتدل بالإشارة . وكان ذلك طوعَ يدها ، وتذكّر قضية جريج . قاله في الحاشية . { قالوا } منكرين لجوابها : { كيف نُكلم من كان في المهد صبيًّا } ، ولم يُعهد فيما سلف صبي يكلمه عاقل . و { كان } هنا : تامة . و { صبيًّا } : حال . وقيل : زائدة ، أي : من هو في المهد . { قال } عيسى عليه السلام : { إِني عبد الله } ، أنطقه الله تعالى بذلك تحقيقًا للحق ، وردًا على من يزعم ربوبيته . قيل كان المستنطق لعيسى زكريا - عليهما السلام - وعن السدي : لما أشارت إليه ، غضبوا ، وقالوا : لَسُخْرِيَتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت . رُوي أنه عليه السلام كان يرضع ، فلما سمع ذلك ترك الرضاع واقبل عليهم بوجهه ، واتكأ على يساره ، وأشار بسبابته ، فقال ما قال . وقيل : كلمهم بذلك ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان . ثم قال في كلامه : { آتاني الكتابَ } : الإنجيل : { وجعلني } مع ذلك { نبيًّا وجعلني مباركًا } : نفَّاعًا للناس ، معلمًا للخير { أينما كنتُ } أي : حيثما كنت ، { وأوصاني بالصلاة } : أمرني بها أمرًا مؤكدًا ، { والزكاة } زكاة الأموال ، أو بتطهير النفس من الرذائل { ما دمت حيًا } في الدنيا . { و } جعلني { برًّا بوالدتي } فهو عطف على { مباركًا } . وقرئ بالكسر ، على أنه مصدرٌ وُصف به مبالغةً ، وعبّر بالفعل الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم ، أو بجعل ما سَيَقَع واقعًا لتحققه . ثم قال : { ولم يجعلني جبارًا شقيًّا } عند الله تعالى ، بل متواضعًا لينًا ، سعيدًا مقربًا ، فكان يقول : سلوني ، فإن قلبي لين ، وإني في نفسي صغير ، لما أعطاه الله من التواضع . ثم قال : { والسلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعث حيًّا } ، كما تقدم على يحيى . وفيه تعريض بمن خالفه ، فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده ، كما في قوله تعالى : { وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } [ طه : 47 ] فإنه تعريض بأن العذاب على من كذّب وتولى . فهذا آخر كلام عيسى عليه السلام ، وهو أحد من تكلم في المهد ، وقد تقدم ذكرهم في سورة يوسف نظمًا ونثرًا . وكلهم معروفون ، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها . وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي . قال : قال ابن عباس : لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم مرت به ريح طيبة فقال : يا جبريل ما هذه الرائحة ؟ قال : رائحة ماشطةِ بنتِ فرعون ، كانت تمشطها ، فوقع المشط من يدها ، فقالت : بسم الله ، فقالت ابنته : أبى ؟ فقالت : لا ، بل ربي وربك ورب أبيك . فقالت : أُخبر بذلك أبي ؟ قالت : نعم ، فأخبرته فدعاها ، وقال : من ربك ؟ قالت : ربي وربك في السماء ، فأمر فرعون ببقرة - أي : آنية عظيمة من نحاس - فَأُحْمِيَتْ ، ودعاها بولدها ، فقالت : إن لي إليك لحاجةً ، قال : وما حاجتك ؟ قالت : تجمع عظامي وعظامَ ولدي فتدفنها جميعًا ، قال : وذلك لك علينا من الحقّ ، سأفعل ذلك لك ، فأمر بأولادها واحدًا واحدًا ، حتى إذا كان آخر ولدها ، وكان صبيًا مرضَعًا ، قال : اصبري يا أمه … فألقاها في البقرة مع ولدها . هـ . الإشارة : يؤخذ من الآية أمور صوفية ، منها : أن الإنسان يُباح له أن يستتر في الأمور التي تهتك عرضه ، ويهرب إلى مكان يُصان فيه عرضه ، إلا أن يكون في مقام الرياضة والمجاهدة ، فإنه يتعاطى ما تموت به نفسه ، ومنها : أنه لا بأس أن يلجأ الإنسان إلى ما يخفف آلامه ويسهل شدته ، ولا ينافي توكله . ومنها : أن لا بأس أن يتمنى الموت إذا خاف ذهاب دينه أو عرضه ، أو فتنة تحول بينه وبين قلبه . ويُؤخذ أيضًا من الآية : أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافي الصبر والرضا لأنه من طبع البشر ، وإنما ينافيه تماديه على الجزع . ومنها : أن تحريك الأسباب الشرعية لا ينافي التوكل ، لقوله تعالى : { وهُزي إليك } . لكن إذا كانت خفيفة مصحوبة بإقامة الدين ، غير معتمد عليها بقلبه ، فإن كان متجردًا فلا يرجع إليها حتى يكمل يقينه ، ويتمكن في معرفة الحق تعالى . وقد كانت في بدايتها تأتي إليها الأرزاق بغير سبب كما في سورة آل عمران ، وفي نهايتها قال لها : { وهُزي إليك } . قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كانت في بدايتها متعرفًا إليها بخرق العادات وسقوط الأسباب ، فلما تكمل يقينها رجعت إلى الأسباب ، والحالة الثانية أتم من الحالة الأولى ، وأما من قال : إن حبها أولاً كان لله وحده ، فلما ولدت انقسم حبها ، فهو تأويل لا يرضى ولا ينبغي أن يلتفت إليه ، لأنها صدّيقة ، والصدّيق والصدّيقة لا ينتقلان من حالة إلا إلى أكمل منها . ومنها : أن الإنسان لا بأس أن يوجب على نفسه عبادة ، إذا كان يتحصن بها من الناس ، أو من نفسه ، كالصوم أو الصمت أو غيرهما ، مما يحجزه عن العوام ، أو عن الانتصار للنفس . وقوله تعالى : { والسلام عليّ يوم وُلدتُ … } الآية : قال الورتجبي : سلام يحيى سلام تخصيص الربوبية على العبودية . ثم قال : وسلام عيسى من عين الجمع ، سلام فيه مزية ظهور الربوبية في معدن العبودية . وأرفع المقامين سلام الحق على سيد المرسلين كفاحًا في وصاله وكشف جماله ، ولو سَلّم عليه بلسانه كان بلسان الحدث ، ولا يبلغ رتبة سلامه بوصف قِدَمه . هـ . ثمَّ شرع في الردِّ على النصارى وعلى من أشرك من غيرهُ