Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 2-6)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { ذكر } : خبر عن مضمر ، أي : هذا ذكر ، والإشارة للمتلو في هذه السورة لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر في حكم الحاضر الشاهد . وقيل : مبتدأ حُذف خبره ، أي : فيما يُتلى عليك ذكر رحمت ربك . وقيل : خبر عن { كهيعص } ، إذا قلنا هي اسم للسورة ، أي : المسمى بهذه الحروف ذكر رحمة ربك ، و { عبده } : مفعول لرحمة ربك ، على أنها مفعول لما أضيف إليها ، أو لذكر ، على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع . ومعنى ذكر الرحمة : بلوغها إليه ، و { زكريا } : بدل منه ، أو عطف بيان ، و { إذ نادى } : ظرف لرحمة ، وقيل : لذكْر ، على أنه مضاف إلى فاعله ، وقيل : بدل اشتمال من زكريا ، كما في قوله : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ … } [ مريَم : 16 ] ، و { مِنّي } : حال من العَظْم ، أي : كائنًا مني ، و { شيئًا } : تمييز . يقول الحقّ جلّ جلاله : هذا الذي نتلوه عليك في هذه السورة هو { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } . قال الثعلبي : [ فيه تقديم وتأخير ] . أي : ذكر ربك عبده زكريا برحمته ، { إِذْ نادى ربه } وهو في محرابه في طلب الولد { نداءً خفيًّا } : سرًا من قومه ، أو في جوف الليل ، أو مخلصًا فيه لم يطلع عليه إلا الله . ولقد راعى عليه السلام حسن الأدب في إخفاء دعائه فإنه أَدْخَلُ في الإخلاص وأَبَْعَدُ من الرياء ، وأقرب إلى الخلاص من كلام الناس ، حيث طلب الولد في غير إِبَّانِهِ ومن غائلة مواليه الذين كان يخافهم . { قال } في دعائه : { ربِّ إِني وَهَنَ العظمُ مني } أي : ضعف بدني وذهبت قوتي . وإسناد الوهن إلى العَظْم لأنه عماد البدن ودعامة الجسد ، فإذا أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله ، وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن إلى كل فرد من أفراده . ووهن بدنه عليه السلام : لكبر سنه ، قيل : كان ابن سبعين ، أو خمسًا وسبعين ، وقيل : مائة ، وقيل : أكثر . { واشتعل الرأسُ شيبًا } أي : ابيضَّ شَمَطًا . شبه عليه السلام الشيب من جهة البياض والإنارة بشواظ النار ، وانتشاره في الشعر وفُشوِّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرجه مخرج التمييز ، ففيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى ، حيث كان الأصل : واشتعل شيب رأسي ، فأسند الاشتعال إلى الرأس لإفادة شموله لكلها ، فإن وِزَانَهُ : اشتعل بيته نارًا بالنسبة إلى اشتعلت النار في بيته ، ولزيادة تقريره بالإجمال أولاً ، والتفصيل ثانيًا ، ولمزيد تفخيمه بالتكثير من جهة التنكير . ثم قال : { ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا } أي : لم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل ، بل كنت كلما دعوتك استجبتَ لي . توسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه ، لعله يشفع له ذلك بمثله ، إثر تمهيد ما يستدعي ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال . والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع ، ولذلك قيل : من أراد أن يُستجاب له فليدعُ الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته . ثم قال : { وإِني خفتُ الموالي } أي : الأقارب ، وهم : بنو عمه ، وكانوا أشرار بني إسرائيل ، فخاف ألا يحسنوا خلافته في أمته ، فسأل الله تعالى ولدًا صالحًا يأمنه على أمته . وقوله : { من ورائي } : متعلق بمحذوف ، أي : جور الموالي ، أو مما في الموالي من معنى الولاية ، أي : خفت أن يلوا الأمر من ورائي ، { وكانت امرأتي عاقرًا } : لا تلد من حين شبابها ، { فهبْ لي من لدنك } أي : أعطني من محض فضلك الواسع ، وقدرتك الباهرة ، بطريق الاختراع ، لا بواسطة الأسباب العادية لأن التعبير بِلَدُنّ يدل على شدة الاتصال والالتصاق ، { وليًّا } : ولدًا من صُلبي ، يلي الأمر من بعدي . والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما ذكره عليه السلام من كبر السن وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عن الولد بتوسط الأسباب ، فاستوهبه على الوجه الخارق للعادة ، ولا يقدح في ذلك أن يكون هنالك داعٍ آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور ، من مشاهدته للخوارق الظاهرة عند مريم ، كما يعرب عنه قوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عِمرَان : 38 ] . وعدم ذكره هنا اكتفاء بما تقدم ، فإن الاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من النكتة التنزيلية . وقوله : { يرثني } : صفة لوليًّا ، وقرئ بالجزم هو وما عطف عليه جوابًا للدعاء ، أي : يرثني من حيث العلم والدين والنبوة ، فإن الأنبياء - عليهم السلام - لا يورثون من جهة المال . قال صلى الله عليه وسلم : " نحن مَعاشر الأنبيَاءِ لا نُورَثُ " وقيل : يرثني في الحبورة ، وكان عليه السلام حَبْرًا . { ويرثُ من آل يعقوب } النبوة والمُلك والمال . قيل : هو يعقوب بن إسحاق . وقال الكلبي ومقاتل : هو يعقوب بن ماثان ، أخو عمران بن ماثان ، أبي مريم ، وكانت زوجة زكريا أخت أم مريم ، وماثان من نسل سليمان عليه السلام ، فكان آل يعقوب أخوال يحيى . قال الكلبي : كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم ، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ ، فأراد أن يرث ولده حبُورته ، ويرث من بني ماثان ملكهم . هـ . { واجعله ربِّ رَضيًّا } أي : مرضيًا ، فعيل بمعنى مفعول ، أي : ترضى عنه فيكون مرضيًا لك ، ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل ، أي : راضيًا بتقديرك وأحكامك التعريفية والتكليفية . والله تعالى أعلم . الإشارة : طلب الوارث الروحاني - وهو وارث العلم والحال - جائز ليبقى الانتفاع به بعد موته . وقيل : السكوت والاكتفاء بالله أولى ، ففي الحديث : " يرحَم اللهُ أخانا زَكَرِيَّا ، وَمَا كَان عَلَيْه مَنْ يَرِثُه " وقوله تعالى : { نداء خفيًا } . الإخفاء عند الصوفية أولى في الدعاء والذكر وسائر الأعمال ، إلا لأهل الاقتداء من الكَمَلَة ، فهم بحسب ما يبرز في الوقت . وقوله تعالى : { ولم أكن بدعائك ربّ شقيًّا } . فيه قياس الباقي على الماضي ، فالذي أحسن في الماضي يحسن في الباقي ، فهذا أحد الأسباب في تقوية حسن الظن بالله وأعظم منه من حسَّن الظن بالله لما هو متصف به تعالى من كمال القدرة والكرم ، والجود والرأفة والرحمة ، فإن الأول ملاحظ للتجربة ، والثاني ناظر لعين المِنَّة . قال في الحكم : " إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه ، حسّن ظنك به لوجود معاملته معك ، فهل عَوَّدَكَ إلا حَسَنًا ؟ وهل أسدى إليك إلا مننًا ؟ " . ثمَّ ذكر إجابته زكريا فقال : { يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ … }