Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 7-11)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { عِتيًّا } : مصدر ، من عتا يعتو ، وأصله : عتوو ، فاستثقل توالي الضمتين والواوين ، فكسرت التاء ، فقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، ثم قُلبت الثانية أيضّا لاجتماع الواو والياء ، وسبق إحداهما بالسكون . { قال كذلك } : خبر ، أي : الأمر كذلك ، فيوقف عليه ، ثم يقول : { قال ربك } ، أو مصدر لقال الثانية ، أي : مثل ذاك القول قال ربك . و { سويًّا } : حال من فاعل { تكلم } . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا زكريا } ، كلمهُ بواسطة المَلك : { إِنا نبشركَ } ونجيب دعوتك { بغُلامٍ اسمه يَحيى } لأنه حيى به عُقْمُ أمه . أجاب نداءه في الجملة ، لا من كل وجه ، بل على حسب المشيئة ، فإنه طلب ولدًا يرثُه ، فأجيب في الولد دون الإرث فإن الجمهور على أن يحيى مات قبل موت أبيه - عليهما السلام - وقيل : بقي بعده برهة ، فلا إشكال حينئذ . وفي تعيين اسمه تأكيد للوعد وتشريف له ، وفي تخصيصه به - كما قال تعالى : { لم نجعل له من قبلُ سَميًّا } أي : شريكًا في الاسم ، حيث لم يتسم به أحد قبله - مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام فإن التسمية بالأسماء البديعة الممتازة عن أسماء الناس تنويه بالمسمى لا محالة . وقيل : { سَميًّا } : شبيهًا في الفضل والكمال ، كما قال تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] فإنه عليه السلام لم يكن قبله أحد مثله في بعض أوصافه ، لأنه لم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد لشيخ فانٍ ، وعجوز عاقر ، وأنه كان حصورًا ، ولم تكن هذه الخصال لغيره . { قال ربِّ أنّى يكونُ لي غلامٌ } أي : من أين وكيف يحدث لي غلام ، { وكانت امرأتي عاقرًا } : عقيمة ، { وقد بلغتُ من الكِبَر عتيًّا } : يبسًا في الأعضاء والمفاصل ، ونحولاً في البدن ، لِكِبَرِهِ ، وكان سنُّه إذ ذاك مائة وعشرين ، وامرأته ثمان وتسعين . وتقدم الخلاف فيه . وإنما قاله عليه السلام مع سبق دعائه وقوة يقينه ، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في آل عمران استعظامًا لقدرة الله تعالى ، وتعجيبًا منها ، واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك ، بإظهار أنه من محض فضل الله وكرمه ، مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة . وقيل : كان دهشًا من ثمرة الفرح ، وقيل : كان ذلك منه استفهامًا عن كيفية حدوثه . وقيل : بل كان ذلك بطريق الاستبعاد ، حيث كان بين الدعاء والبشارة سِتُّون سنة ، وكان قد نسي دعاءه ، وهو بعيد . { قال كذلك } أي : الأمر كما ذكر من كبر السن وعقم المرأة ، لكن هو على قدرتنا هين ، ولذلك قال : { قال ربك هو عليّ هيِّنٌ } ، أو مثل ذلك القول البديع قال ربك ، ثم فسَره بقوله : { هو عليّ هيِّن } ، أو " مثل " مقحمة ، أي : ذلك قال ربك . والإشارة إلى مصدره ، الذي هو عبارة عن إيجاد الولد السابق ، أو كذلك قضى ربك . ثم قال : { هو عليَّ هيِّن وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ شيئًا } أي : وقد أوجدت أصلك " آدم " من العدم ، ثم نشأتَ أنت من صلبه ، ولم تك شيئًا ، فإن نشأة آدم عليه السلام وتصويره منطوية على نشأة أولاده ، ولذلك قال في آية أخرى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [ الأعرَاف : 11 ] الآية . انظر تفسير أبي السعود . { قال ربِّ اجعلْ لي آية } أي : علامة تدلني على تحقق المسؤول ، وبلوغ المأمول ، وهو حمل المرأة بذلك الولد ، لأتلقى تلك النعمة العظيمة بالشكر حين حدوثها ، ولا أؤخر الشكر إلى وقت ظهورها ، وينبغي أن يكون سؤاله الآية بعد البشارة ببرهة من الزمان لما يُروى أن يحيى كان أكبر من عيسى - عليهما السلام - بستة أشهر ، أو بثلاث سنين ، ولا ريب في أن دعاء زكريا عليه لسلام كان في صغر مريم ، لقوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] ، وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين ، أو ثلاث عشرة سنة ، أو يكون تأخر ظهورُ الآية إلى قرب بلوغ مريم - عليها السلام - . { قال } له تعالى : { آيتك ألاّ تُكَلّم الناس } أي : أن لا تقدر على أن تُكلم الناسَ مع القدرة على الذكر ، { ثلاث ليالٍ } بأيامهن ، للتصريح بها في آل عمران ، حال كونك { سويًّا } أي : سَوِيّ الخَلْقِ سليم الجوارح ، ما بك شائبَةُ بَكَمٍ ولا خَرَس ، وإنما مُنعت بطريق الاضطرار مع كمال الأعضاء . وحكمة منعه لينحصر كلامه في الشكر والذكر في تلك الأيام . { فخرج على قومِهِ من المحراب } : من المصلّى ، وكان مغلقًا عليه ، فالمحراب مكان التعبد ، أو من الغرفة ، وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب ، ليدخلوا ويُصلوا ، إذ خرج عليهم متغيرًا لونه ، فأنكروه ، وقالوا له : ما لك " فأوحى إليهم أي : أوْمَأ إليهم ، وقيل كتب في الأرض { أن سبِّحُوا } أي صلوا { بُكرةً وعَشِيًا } : صلاة الفجر وصلاة العصر ، ولعلها كانت صلاتهم . أو : نزهوا ربكم طرفي النهار ، ولعله أُمِر أن يُسبح فيها شكرًا ، ويأمر قومه بذلك . والله تعالى أعلم . الإشارة : إجابة الدعاء مشروطة بالاضطرار ، قال تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النَّمل : 62 ] وفي الحِكَم : " ما طلَبَ لك شيءٌ مثلُ الاضطرار ، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار . فإذا اضطررت إلى مولاك ، فلا محالة يجيب دعاك ، لكن فيما يريد لا فيما تريد ، وفي الوقت الذي يريد ، لا في الوقت الذي تريد . فلا تيأس ولا تستعجل { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ] . فإذا رأيت مولاك أجابك فيما سألته ، فاجعل كلامك كله في شكره وذكره ، واستفرغ أوقاتك ، إلا من شهود إحسانه وبره . وبالله التوفيق . ثم ذكر وصيته ليحيى عليه السلام ونعوته