Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 59-63)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { جنات عدن } : بدل من الجنة ، بدل بعض لاشتمالها عليها ، وما بينهما اعتراض ، أو نصب على المدح . و { إلا سلامًا } : منقطع ، أي : لكن يسمعون سلامًا ، ويجوز اتصاله ، على أن المراد بالسلام الدعاء بالسلامة ، فإن أهل الجنة أغنياء عنه ، فهو داخل في اللغو . و { بالغيب } : حال من عائد الموصول ، أي : وعدها ، أو من العباد ، و { مأتِيًا } : أصله مأتوى ، فأبدل وأدغم كما تقدم . يقول الحقّ جلّ جلاله : { فخَلَفَ من بعدهم } أي : جاء بعد أولئك الأكابر ، { خَلْفٌ } أي : عقب سوء ، يقال لعقب الخير " خَلَفٌ " بفتح اللام ، ولعقب الشر " خلْف " بسكون اللام ، أي : فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء ، { أضاعوا الصلاة } أي : تركوها وأخروها عن وقتها ، { واتبعوا الشهواتِ } من شرب الخمر ، واستحلال نكاح الأخت ، من الأب ، والانهماك في فنون المعاصي ، وعن علي رضي الله عنه : هم من بَني المُشيد ، وركب المنضود ، ولبس المشهور . قلت : ولعل المنضود : السُرج المرصعة بالجواهر والذهب . وقال مجاهد : هذا عند اقتراب الساعة ، وذهاب صالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقة . هـ . { فسوف يلقون غيًّا } : شرًا ، فكل شر عند العرب غيٌ ، وكل خير رشاد . قال ابن عباس : الغيُّ : واد في جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرِّه ، أُعد للزاني المصرِّ ، ولشارب الخمر المدمن ، ولأهل الرياء والعقوق والزور ، ولمن أدخلت على زوجها ولدًا من غيره . هـ . { إِلا مَن تاب وآمن وعمل صالحًا } ، هذا يدل على أن الآية في الكفار . { فأولئك } المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح ، { يدخلون الجنة } بموجب الوعد المحتوم ، أو يُدخلهم الله الجنة ، { ولا يُظلمون شيئًا } : لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئًا ، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ، ولا ينقص أجورهم ، إذا صححوا المعاملة مع ربهم . { جنات عدنٍ } أي : إقامة ، لإقامة داخلها فيها على الأبد ، { التي وعد الرحمن عبادَه بالغيب } أي : ملتبسين بالغيب عنها لم يروها ، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار ، أو ملتبسة بالغيب ، أي : غائبة عنهم غير حاضرة . والتعرض لعنوان الرحمانية للإيذان بأن وعده وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى ، { إِنه كان وعده مَأْتِيًّا } يأتيه من وعُد به لا محالة ، وقيل : هو مفعول بمعنى فاعل ، أي : آتيًا لا محالة ، وقيل : مأتيًا : منجزًا ، من أتى إليه إحسانًا ، أي : فعله . { لا يسمعون فيها لغوًا } أي : فضول كلام لا طائل تحته ، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها . وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغي للعبد أن يجتنبه في هذه الدار ما أمكنه . وفي الحديث : " مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المرْءِ تَرَكُهُ ما لا يَعْنِيهِ " وهو عَامٌّ في الكلام وغيره . { إِلا سلامًا } ، أي : لا يسمعون لغوًا ، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم ، أو تسليم بعضهم على بعض ، { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًّا } أي : على قدرهما في الدنيا ، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل ، بل ضوء ونور أبدًا . قال القرطبي : ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، أي : ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب . قال القشيري : الآية ضرب مثل لما عهد في الدنيا لأهل اليسار ، والقصد : أنهم أغنياء مياسير في كل وقت . هـ . وسيأتي عند قوله : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ } [ الزّخرُف : 71 ] كيفية أرزاقهم . قال تعالى : { تلك الجنة } : مبتدأ وخبر ، جيء بهذه الجملة لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها ، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتها وعلو رتبتها ، أي : تلك الجنة التي وُصفت بتلك الأوصاف العظيمة هي { التي نُورث } أي : نورثها { مِنْ عبادنا من كان تقيًّا } لله بطاعته واجتناب معاصيه ، أي : نُديمها عليهم بتقواهم ، ونمتعهم بها ، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به ، والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال . وقيل : يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار ، لو آمنوا وأطاعوا ، زيادة في كرامتهم . والله تعالى أعلم . الإشارة : قوله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف … } الآية تنسحب على من كان أسلافه صالحين ، فتنكب عن طريقهم ، فضيّع الدين ، وتكبر على ضعفاء المسلمين ، واتبع الحظوظ والشهوات ، وتعاطى الأمور العلويات ، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه ، أو بالجاه والمال ، كان أغرق في الغي والضلال ، يصدق عليه قول القائل : @ إن عاهدوك على الإحسان أو وعدُوا خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا بـل يفخــرون بأجــداد لهــم ســلفـت نِعم الجدود ولكن بئس ما خلَّفوا @@ إلا من تاب ورجع إلى ما كان عليه أسلافه ، من العلم النافع والعمل الصالح ، والتواضع للصالح والطالح ، فيرافقهم في جنة الزخارف أو المعارف ، التي وعد الرحمن عباده المخصوصين بالغيب ، ثم صارت عندهم شهادة ، إنه كان وعده مأتيًا ، لا يسمعون فيها لغوًا لأن الحضرة مقدسة عن اللغو ، { إلا سلامًا } لسلامة صدورهم ، ولهم رزقهم فيها من العلوم والأسرار والمواهب ، في كل ساعة وحين ، لا يرث هذه الجنة إلا من اتقى ما سوى الله ، وانقطع بكليته إلى مولاه . وبالله التوفيق ولما أبطأ الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يَمنعُكَ أن تزورنَا أكثرَ مما تَزورنا ؟ " .