Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 64-65)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : وجه المناسبة لما قبله - والله أعلم - : أن الحق جلّ جلاله لما سرد قصص الأنبياء وما نشأ بعدهم ، وكان جبريل هو صاحب وحيهم الذي ينزل به عليهم ، ذكر هنا أن نزوله ليس باختياره ، فقال : { وما نتنزل … } الخ . يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا لقول جبريل عليه السلام : { وما نتنزَّلُ } عليك يا محمد { إِلا بأمرِ ربك } ، وذلك حين أبطأ الوحي عنه صلى الله عليه وسلم ، لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فلم يدر كيف يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه ، فأبطأ عليه أربعين يومًا . قاله عكرمة . وقال مجاهد : ثنتي عشرة ليلة ، أو خمس عشرة . فشقَّ على النبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة . وقال : " يا جبريل قد اشتقت إليك ، فقال جبريل : إني كنت أَشْوَق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بُعثتُ نزلت ، وإذا حُبست احتَبَستُ ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الضحى " ، والتنزل : النزول على مَهَل ، وقد يُطلق على مطلق النزول ، والمعنى : وما نتنزل وقتًا غِبّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى ، على ما تقتضيه حكمته . وقيل : هو إخبار عن أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها مخاطبين بعضهم لبعض بطريق التبجح والابتهاج ، أي : ما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله تعالى ولطفه ، وهو مالك الأمور كلها ، سالفها ومُتَرَقَّبُهَا وحاضرها ، فما وجدناه وما نجده هو من لطفه وفضله . هـ . قلت : ولا يخفى حينئذ مناسبته . ثم قال : { له ما بين أيدينا وما خَلْفَنا وما بين ذلك } أي : وما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ، فلا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل في زمان دون زمان ، إلا بأمره ومشيئته ، وعن مقاتل : { له ما بين أيدينا } من أمر الدنيا ? { وما خلفنا } من أمر الآخرة ، { وما بين ذلك } مما بين النفختين ، وهو أربعين سنة . أو ما بين أيدينا بعد الموت ، وما خلفنا قبل أن يخلقنا ، وما بين ذلك مدة حياتنا ، أي : له علم ذلك كله ? { وما كان ربك نَسِيًّا } : تاركًا لك ومهملاً شأنك ، أو : ذَاهِلاً عنك حتى ينسى أمر الوحي إليك لأنه مُحال ، يعني : أن عدم نزول جبريل لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغة فيه ، ولم يكن تركه تعالى لك إهمالاً وتوديعًا ، كما زعمت الكفرة . وفي إعادة اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعار بعلية الحكم ما لا يخفى . وقوله تعالى : { ربُّ السماوات والأرض وما بينهما } بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة والنسيان . والفاء في قوله : { فاعبُده واصطَبِرْ لعبادته } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من كونه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما . أو من كونه تعالى غير تارك له عليه السلام ، أو غير ناسٍ لأعمال العاملين ، والمعنى على الأول : فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده ، أو حين عرفته تعالى لا ينساك ، أو : ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ، ولا تحزن بإبطاء الوحي وهزْءِ الكفرة ، فإنه يراقبك ويلطف بك في الدنيا والآخرة ، { هل تعلم له سَمِيًّا } أي : شبيهًا ونظيرًا ، أو هل تعلم أحدًا تسمى بهذا الاسم غير الله العالي ، والتسمية تقتضي التسوية بين المتشابهين ، ولا مثل له ، لا موجودًا ولا موهومًا ، مع أن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلاً ، ولم يتجاسر أحد أن يسمي بهذا الاسم ، ولو تجاسر أحدٌ لهلك . وقيل : إن أحدًا من الجبابرة أراد أن يسمي ولده بهذا الاسم ، فخف به وبتلك البلدة . ذكره القشيري في التحبير . والله تعالى أعلم . الإشارة : ما قاله جبريل عليه السلام من كونه لا ينزل إلا بأمر ربه ليس خاصًا به بل كل أحد لا حركة له ولا سكون إلا بالله وبمشيئته ، فلا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل ، ولا حركة ولا سكون ، إلا وقد سبق في علمه وقضائه كيف يكون ، فلا انتقال ولا نزول إلا بقدر سابق وتحريك لاحق " ما من نفَس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه " . وقال الشاعر : @ مشيناها خطى كُتبت علينا ومن كُتبت عليه خطى مشاها ومـن قسمت منيتـه بأرض فليس يموت في أرض سواها @@ فراحة الإنسان أن يكون ابن وقته ، كل وقت ينظر ما يفعل الله به ، فبهذا ينجو من التعب ، ويتحقق له الأدب . وبالله التوفيق . ثم ردَّ على من أنكر البعث