Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 66-72)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { أئذا } : ظرف ، والعامل فيه محذوف ، أي : أأُخرج إذا مت ، لا المتأخر عن اللام لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، إلا أن يرخص في الظروف . واللام في { لَسَوْفَ } ليست للتأكيد ، فإنه مُنْكِرٌ ، وكيف يحقق ما ينكر ، وإنما كلامه حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنه الذي قال : والله إن الإنسان إذا مات لسوف يُخرج حيًّا ، فأنكر الكافر ذلك وحكى قوله ، فنُزلت الآية على ذلك ، قاله الجرجاني : و { الشياطين } : عطف على ضمير المنصوب ، أو مفعول معه . و { جثيًّا } : حال من ضمير { لنحضرنهم } البارز ، أي : لنحضرنهم جاثين ، جمع جاث ، من جثى إذا قعد على ركبتيه ، وأصله : " جثوو " بواوين ، فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين ، فكسرت الثاء تخفيفًا ، وانقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها ، فاجتمعت واو وياء ، وسبقت إحداهما بسكون ، فقُلبت الواو ياء ، وأدغمت الأولى في الثانية ، ومن قرأ بكسر الجيم : فعلى الإتْبَاعِ . و { أَيُّهُم } : مبني على الضم عند سيبويه ، لأنه موصول ، فحقه البناء كسائر الموصولات ، لكنه أعرب في بعض التراكيب للزوم الإضافة ، فإذا حذف صَدْرُ صِلَتِهِ زاد نقصُه فقوي شبه الحرف فيه ، وهو منصوب المحل بلننزعن ، وقرئ منصوبًا على الإعراب ، ومرفوعًا عند الخليل وغيره بالابتداء ، وخبره : { أشد } ، والجملة محكية ، والتقدير : لننزعن من كل شيعة الذين يُقال لهم أيهم أشد … الخ . وقال يونس : علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء ، و { عتيًّا } و { صليًّا } أصلهما : عتوى وصلوى ، من عتى وصلى ، بالكسر والفتح ، فاعلاً بما تقدم . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويقول الإِنسانُ } أي : جنس الإنسان ، والمراد الكفرة ، وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم ، وإن لم يقله الجميع ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانًا ، وإنما القاتل واحد ، وقيل : القائل : أُبيُّ بن خَلَف ، فإنه أخذ عظامًا بالية ، ففتتها ، وقال : يزعم محمد أنا نُبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذا الحال ، فنزلت . أي : يقول بطريق الإنكار والاستبعاد : { أئذا ما متُّ لسوف أُخرج حيًّا } أي : أأبعث من الأرض بعد ما مِتُّ وأُخرج حيًا ؟ قال تعالى : { أولا يَذكُرُ الإِنسانُ } ، من الذِّكر الذي يُراد به التفكر ، ولذلك قُرئ بالتشديد من التذكير . والإظهارُ في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليها من شؤون التكوين ، فإذا ترك التفكر التحق بالبهائم ، فهلاّ يذكر أصله ! وهو { أنا خلقناه من قبلُ } أي : من قبل الحالة التي فيها ، وهي حالة حياته ، { ولم يكُ شيئًا } أي : والحال أنه لم يك شيئًا أصلاً ، وحيث خلقناه وهو في تلك الحال فلأن نبعث الجمع بتفرقاته أولى وأظهر لأن الإعادة أسهل من البدء . قال تعالى : { فوربّك لنحشرنهم } أي : لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعدما أخرجتهم من الأرض . وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - لتحقيق الأمر ، والإشعار بِعِلِّيَّتِهِ ، وتفخيم شأنه ، ورفع منزلته صلى الله عليه وسلم ، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده ، كأنه أمر واضح غني عن التصريح به ، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال ، أي : حيث ذكر الحشر وما بعده . ولم يصرح بنفس البعث لتحقق وضوحه ، وإنما قال : { فوربّك لنحشرنهم } أي : نجمعهم { والشياطينَ } المغوين لهم ، إلى المحشر ، وقيل : إن الكفرة يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم ، كل منهم مع شيطانه في سلسلة ، { ثم لنحضِرَنَّهم حول جهنم جثيًّا } : باركين على ركَبِهم لما يدهمُهم من هول المطلع ، والجثو : جلسة الذليل الخائف . والآية كما ترى ، صريحة في الكفرة ، فهم الذين يُساقون من الموقف إلى شاطئ جهنم ، جُثاة إهانة بهم ، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف . وأما قوله تعالى : { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجَاثيَة : 28 ] فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ، فإن أهل الموقف جاثون على الرُّكب ، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام ، قلت : ولعل هذا فيمن يُناقش الحساب ، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه ، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم ، كما في الحديث . { ثم لنَنْزِعَنَّ من كل شيعةٍ } أي : من كل أمة تشيعت دينًا من الأديان ، { أيُهم أشدُّ على الرحمن عِتيًّا } أي : من كان منهم أعصى وأعتى ، فيطرحهم فيها . قال ابن عباس : أي : أيهم أشد جرأة ، وقال مجاهد : فجورًا وكذبًا ، وقال مقاتل : علوًا ، أو غلوًا في الكفر ، أو كبرًا ، وقال الكلبي : قائدهم ورأسهم ، أي : فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب ، ثم الذي يليهم جرمًا . وفي ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة ، إذا قلنا بعموم الآية ، وأما إذا خصصناها بالكفرة ، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب . قال تعالى : { ثم لنَحنُ أعلمُ بالذين هم أولى بها صِليًّا } أي : أولى بصليها وأحق بدخولها ، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوًا ، أو رؤوسهم ، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم . { وإِن منكم إِلا وارِدُها } ، فيه التفات لإظهار مزيد الاعتناء ، وقرئ : " وإن منهم " . ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الخلق ، أي : وإن منكم أيها الناس { إلا واردها } أي : واصلها وحاضرها ، يمرُ بها المؤمنون وهي خامدة ، وتنهار بغيرهم . وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال : " إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : أَليْسَ قَدْ وعدنَا ربُّنا أَنْ نَرِدَ النَّارَ ؟ فَيُقالُ لَهُمْ : قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ " وأما قوله تعالى : { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } فالمراد به الإبعاد عن عذابها ، وقيل : ورودها : الجواز على الصراط بالمرور عليها . وعن ابن مسعود : الضمير في { واردها } للقيامة ، وحينئذ فلا يعارض : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] ، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنة بغير حساب ، ولا مرور على الصراط ، فضلاً عن الدخول فيها ، على أنه اختلف في الورود ، فقيل : الدخول وتكون بردًا وسلامًا على المؤمن . وقيل : المرور كما تقدم ، وقيل : الإشراف عليها والاطّلاع . قال القشيري : كلٌّ يَرِدُ النارَ ، ولكن لا ضيْرَ منها ولا إحساس لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من السيئات ، والزلل ، فأشدُّهم فيها انهماكًا : أشدهم فيها بالنار اشتعالاً واحتراقًا ، وأما بريء الساحة ، نقي الجانب بعيد الذنوب ، فكما في الخبر : " إن النار عند مرورهم ربوة كربوة اللَّبَن - أي : جامدة كجمود اللبن حين يسخن - فيدخلونها ولا يحسون بها ، فإذا عبروها قالوا : أليس قد وعدنا جهنم على الطريق ؟ فيقال لهم : عبرتم وما شعرتم " . هـ . { كان على ربك حتمًا مقضيًّا } أي : كان وُرودهم إياها أمرًا محتومًا أوجبه الله تعالى على ذاته ، وقضى أنه لا بد من وقوعه . وقيل : أقسم عليه ، ويشهد له : " إلا تحلة القسم " . { ثم نُنَجِّي الذين اتقوا } الكفرَ والمعاصي ، بأن تكون النار عليهم بردًا وسلامًا ، على تفسير الورود بالدخول ، وعن جابر أنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الوُرودُ الدُّخولُ ، لا يَبْقَى بَرٌّ ولا فَاجِرٌ إِلاَّ دخَلَهَا ، فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بَرْدًا وسَلاَمًا ، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيم ، حَتَّى إنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ " وإن فسرنا الورود بالمرور ، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها ، { ونذَرُ الظالمين فيها جِثيًّا } : باركين على ركبهم ، قال ابن زيد : الجثي شر الجلوس ، لا يجلس الرجل جاثيًا إلا عند كرب ينزل به . هـ . الإشارة : من أراد كرامة الآخرة فَلْيُرَبِّ يقينه فيها ، حتى تكون نصب عينيه ، فإنه يرد على الله كريمًا . ومن أراد السلامة من أهوالها فليخفف من أوساخها وأشغالها ، ويلازم طاعة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم . ومن أراد سرعة المرور على الصراط ، فليلزم اليوم اتباع الصراطِ المستقيم ، فبقدر ما يستقيم عليها تستقيم أقدامه على الصراط ، وبقدر ما يزل عنها يزلُّ عن الصراط . قال في الإحياء ، لما تكلم على العدل في الكيل والوزن ، قال بعد كلامه : وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته ، فالويل له إن عدل عن العدل ، ومال عن الاستقامة ، ولولا تعذُّر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها … } الآية ، فلا ينفك عبدٌ ليس معصومًا عن الميل عن الاستقامة ، إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتًا عظيمًا ، فبذلك تتفاوت مدة إقامتهم في النار إلى أوان الخلاص ، حتى لا يبقى بعضُهم إلا بقدر تحلة القسم ، ويبقى بعضهم ألفًا وألوف سنين ، نسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل ، فإن الاستداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه فإنه أدق من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار ، الذي من صفته أنه أدق من الشعر ، وأحدّ من السيف ، وبقدر الاستقامة على الصراط المستقيم يخِف مرور العبد يوم القيامة على الصراط . هـ . وقال الترمذي الحكيم : يجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار ، قال الله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] ، وإنما بَعُدوا عنها لأن النور احتملهم واحتوشهم ، فهم يمضون في النار ، حتى إذا خرجوا منها قال بعضهم لبعض : أليس قد وُعدنا النار ، فذكر ما تقدم . ثم قال : فأما ضجة النار فمن بردهم ، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب ، فبالرحمة نالوا النور ، حتى أشرق في قلوبهم وصدورهم ، فكان نوره في قلوبهم ، والرحمة مظلة عليهم ، فخمدت النار من بردهم عندما لقُوهَا ، فضجت من أجل أنها خلقت منتقمة ، فخافت أن تضعف عن الانتقام . ولذلك رُوي أنها تقول : " جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبي " . هـ . وقال الورتجبي : إذا كان جمال الحق مصحوبهم ، فلا بأس بالوقوف في النيران ، فإن هناك أهل الجنان . @ إذا نزلت سلمى بواد فماؤها زلال وسَلسال وسيحانها وِرْدُ @@ … هـ . وقال جعفر الصادق : لولا مقاربة النفوس ما دخل أحد النار ، فلما فارقتهم نفوسهم أوردهم النار بأجمعهم ، فمَنْ كان أشد إعراضًا عن خبث النفس كان أسرع نجاة من النار ، ألا ترى الله يقول : { ثم نُنجي الذين اتقوا } . هـ . قلت : وقد تقدم أن من لا حساب عليهم - وهم المقربون - يمرون على الصراط ولا يحسون به ، وهم الذين يمرون عليه كالطير أو كالبرق ، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه ، وبجاه خير الخلق مولانا محمد نبيه وحبه ، آمين . ثمَّ ذكر أحوال من سقط في جهنم ويبقى فيها جثياً