Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 85-87)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { يوم نحشر } : إما ظرف لفعل مؤخر للإشعار بضيق العبارة عن حصره لكمال جماله أو فظاعته ، والتقدير : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن ، ونسوق المجرمين ، نفعل بالفريقين ما لا يفي به نطاق المقال ، أو ظرف لاذكر ، و { وفْدًا } و { وِرْدًا } : حالان . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يوم نحشرُ المتقين } : نجمعهم { إلى الرحمن } أي : إلى ربهم يغمرهم برحمته الواسعة ، { وَفْدًا } : وافدين عليه ، كما يفد الوفود على الملوك ، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم . وعن عليّ كرم الله وجهه : لما نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول الله ، إني قد رأيت الملوك ووفودهم ، فلم أر وفدًا إلا راكبًا ، فما وفد الله ؟ قال : " يا عليّ إذا حان المنصَرَفُ من بين يدي الله ، تلقت الملائكة المؤمنين بنُوقٍ بيض ، رِحالُهَا وأزِمَّتُها الذَهَبُ ، على كل مركب حُلة لا تُساويها الدنيا ، فيلبس كل مؤمن حلّة ، ثم يستوون على مراكبهم ، فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } " . { ونَسُوقُ المجرمين } كما تُساق البهائم { إِلى جهنم وِرْدًا } : عطاشًا ، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش ، أو كالدواب التي ترد الماء ، أي : يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفي به نطاق العبارة ، لما يقع فيه من الدواهي الطامة ، أو الكرائم العامة ، أو : اذكر يوم نحشر الفريقين ، على طريق الترغيب والترهيب . وقوله تعالى : { لا يملكون الشفاعة } : استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله ، وضمير الواو : إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها ، أو إلى المتقين فقط ، أو إلى المجرمين . و { مَن اتخذ } : منصوب على الاستثناء ، أو بدل من الواو ، أي : لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى ، ففيه ترغيب للعباد في تحصيل الإيمان والتقوى ، المؤدي إلى نيل هذه الرتبة العليا . أو لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح ، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلمًا ، فيشفع في مثله . فَمَن ، على هذا الثالث ، بدل من الواو فقط . والأول أحسن لعمومه . قال ابن مسعود رضي الله عنه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أما يَعْجزُ أَحدكُمْ أَنْ يتَّخِذَ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَساءٍ عَهدًا عِند اللهِ ، يَقُولُ كُلَّ صَبَاحٍ ومَساءٍ : اللهُمَّ فَاطِرَ السماوَاتِ والأرْض ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادةِ ، إنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ في هذهِ الحياةَ الدنيا ، بأَنِي أشْهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أنتَ ، وَحْدكَ لا شَرِيكَ لَكَ ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ ورَسُولُكَ ، فلا تكلني إلى نفسي ، فإِنَكَ إنْ تَكلْنِي إلى نَفسْي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشرِّ وتُبَاعِدْنِي مِنَ الخَيْرِ ، وإنّي لاَ أَثِقُ إلاَّ بِرَحْمَتِكَ ، فاجَْعلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوفِّينِيه يَوْمَ القِيامَةِ ، إنَّكَ لا تُخْلفُ المِيعادَ . فإذا قالَ ذَلِكَ طُبعَ عَلَيْهِ طابَع ووُضِعَ تَحْتَ العَرْشِ ، فَإذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَىَ مُنَادٍ : أَيْنَ الذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ فَيَدْخُلُونَ الجنَّة " هـ . الإشارة : ورود العباد على الله يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم في الدنيا ، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده في الآخرة ، فمن ورد على الله تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة ، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية ، ومن ورد من باب الطاعات السرية - كالفكرة والنظرة في مقام المشاهدة - حمله الحق إلى الحضرة القدسية ، فيكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر . قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن العارف في قوله تعالى : { وفدًا } : قيل : ركبانًا على نجائب طاعتهم ، وهم مختلفون ، فمن راكب على صور الطاعات ، ومن راكب على نجائب الهمم ، ومن راكب على نجائب الأنوار ، ومن محمول يحمله الحق في عقباه ، كما يحمله اليوم في دنياه ، وليس محمول الحق كمحمول الخلق . هـ . وقوله تعالى : { لا يملكون الشفاعة … } الآية ، اعلم أن العهد الذي تكون به الشفاعة يوم القيامة هو الطاعة وتربية اليقين والمعرفة ، فتقع الشفاعة لأهل الطاعات على قدر طاعتهم وإخلاصهم ، وتقع لأهل اليقين على قدر يقينهم ، وهم أعظم من أهل المقام الأول ، وتقع لأهل المعرفة على قدر عرفانهم ، وهم أعظم من القسمين ، حتى إن منهم من يشفع في أهل عصره كلهم ، وقد سَمِعْتُ من شيخنا الفقيه ، شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة ، أن بعض الأولياء قال عند موته : يا رب شفعني في أهل زماني ، فقال له الحق تعالى - من جهة الهاتف - : لم يبلغ قدرك هذا ، فقال : يا رب إن كان ذلك من جهة عملي واجتهادي فَلَعَمْرِي إنه لم يبلغ ذلك ، وإن كان من جهة كرمك وجودك فوعزتك وجلالك لهو أعظم من هذا ، فقال له : إني شفعتك في أهل عصرك . هـ . بالمعنى . فمن رجع إلى كرم الله وجوده ، ودخل من هذا الباب ، وجد الإجابة أقرب إليه من كل شيء . وبالله التوفيق . ثمَّ كرر الرد على أهل الشرك والضلال وشنع عليهم :