Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 88-95)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { هَدًّا } : مصدر مؤكد لمحذوف ، هو حال من الجبال ، أي : تهد هدًا . و { أن دعوا } : على حذف اللام ، أي : لأن دعوا ، وفيه احتمالات أُخر . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا اتخذ الرحمنُ ولدًا } هذه المقالة صدرت من اليهود والنصارى ، ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله ، لعن الله جميعهم ، فسبحان الله وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ، فحكى جنايتهم إثر جناية عَبَدهَ الأصنام ، وعطف القصة على القصة لاشتراكهم في الضلالة ، قال تعالى في شأنهم : { لقد جئتم شيئًا إِدًّا } أي : فعلتم أمرًا منكرًا شديدًا ، لا يقادر قدره ، فهو رد لمقالتهم الباطلة ، وتهويل لأمرها بطريق الالتفات المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب ، المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح ، وتسجيل عليهم بغاية الوقاحة والجهل . و { جاء } يستعمل بمعنى فعل ، فيتعدى تعديته ، والإد - بكسر الهمزة وفتحها ، وقُرئ بهما في الشاذ - : العظيم المنكر ، الإدُّ : الشدة ، قيل : الأدُّ : في كلام العرب : أعظم الدواهي . ثم وصفه وبيّن هوله فقال : { تكادُ السماواتُ يتفطّرنَ منه } : يتشققن مرة بعد أخرى ، من عظم ذلك الأمر وشدة هوله ، وهو أبلغ من " ينفطرن " كما قرئ به ، { وتنشقُّ الأرضُ } أي : وتكاد تنشق وتذهب ، { وتخرُّ الجبالُ } أي : تسقط وتنهدم { هَدًّا } بحيث لا يبقى لها أثر . والمعنى : أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها ، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة ، لم يُطق سمعها تلك الأجرام العظام ، ولتفتتت من شدة قبحها ، أو : إن فظاعتها واستجلاب الغضب والسخط بها بحيث لولا حلمه تعالى ، لخر العالم وتبددت قوائمه ، غضبًا على من تفوه بها . قال محمد بن كعب : كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة ، يعني : لأن ما ذكر أوصاف الساعة . وذلك { أن دَعَوا للرحمنِ ولدًا } أي : تكاد تنفطر السماوات وتنشق الأرض ، وتنهدم الجبال لأجل أن دعوا ، أي : نسبوا أو سموا للرحمن ولدًا ، { وما ينبغي للرحمنِ أن يتخِذَ ولدًا } أي : قالوا اتخذ الرحمن ولدًا ، أو دعوا له ولدًا ، والحال أنه مما لا يليق به تعالى اتخاذ الولد لاستحالته عليه تعالى . ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلية الحكم لأن كل ما سواه تعالى منعَّم عليه برحمته ، أو نعمة من أثر الرحمة ، فكيف يتصور أن يجانس من هو مبدأ النعم ومولى أصولها وفروعها ، حتى يتَوهم أن يتخذه ولدًا ، وقد صرح به قوله عزّ قائلاً : { إِن كل من في السماوات والأرض } أي : ما منهم من أحد من الملائكة أو الثقلين { إِلا آتي الرحمنِ عبدًا } مملوكًا لله في الحال بالانقياد وقهرية العبودية . { لقد أحصاهم } أي : حصرهم وأحاط بهم ، بحيث لا يخرج أحد من حيطة علمه ، وقبضة قدرته وقهريته ، ما وجد منهم وما سيوجد ، وما يقدر وجوده لو وجد ، كل ذلك في علمه وقضائه وقدره وتدبيره ، لا خروج لشيء عنه ، وفي ذلك تصوير لقيام ربوبيته على كل شيء ، وأنه عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً ، { وكلهم آتيه يومَ القيامةِ فردًا } أي : وكل واحد منهم يأتي يوم القيامة فردًا من الأموال والأنصار والأتباع ، متفردًا بعمله ، فإذا كان شأنه تعالى وشأنهم كذلك فأنى يتوهم احتمال أن يتخذ شيئًا منهم ولدًا ؟ ! . وفي الحديث القدسي : " قال الله تعالى : كذَّبني عبدي ، ولم يكن له ذلك ، وشَتمني عبدي ولم يكن له ذلك ، أما تكذيبُهُ إيايَ فأن يقولَ : من يُعيدُنا كما بَدأنا ؟ وأما شَتمُه إياي فأن يقول : اتخذ الله ولدًا ، وأنا الأحدُ الصمدُ ، لم أَلِد ولم أُولدَ ، ولم يكن لي كُفوًا أحد " وهو في البخاري . وفي صيغة اسم الفاعل في قوله : { آتيه } من الدلالة على إتيانهم كذلك ألبتة ما ليس في صيغة المضارع لو قيل يأتيه . والله تعالى أعلم . الإشارة : إذا علمت أيها المؤمن أن الحق جلّ جلاله يغضب هذا الغضب الكلي على من أشرك مع الله ، أو اعتقد فيه ما ليس هو عليه من التنزيه وكمال الكمال ، فينبغي لك أن تخلص مَشربَ توحيدك من الشرك الجلي والخفي ، علمًا وعقدًا وحالاً وذوقًا ، حتى لا يبقى في قلبك محبة لشيء من الأشياء ولا خوف من شيء ، ولا تعلق بشيء ، ولا ركون لشيء ، إلا لمولاك ، وحينئذ يصفى مشرب توحيدك ، وتكون عبدًا لله خالصًا حرًا مما سواه ، ومهما بقي فيك شيء من محبة الهوى نقص توحيدك بقدره ، ولم تصل إليه ما دمت تميل إلى شيء سواه . وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه : @ إنْ تُرِدَ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه @@ فكن عبدًا لله حقيقة ، وانخرط في سلك قوله : { إِن كل من في السماوات والأرض إِلا آتي الرحمن عبدًا } . فحينئذ تكون حرًا مما سواه ، وَيملكك الوجود بأسره ، يكون عند أمرك ونهيك . وفي ذلك يقول القائل : @ دَعَوْني لملكهم فلما أجبتهم قالوا دعوناك للمُلك لا للمِلك @@ وإذا فتحت عين القدرة وعين الحكمة وضعت كل شيء في محله ، فتتنزه بعين القدرة في رياض الملكوت وبحار الجبروت ، وتتنزه بعين الحكمة في بهجة الملك وأسرار الحكمة . فعين القدرة تقول : كل من في السماوات والأرض عبد مملوك تحت قهرية ذاته ، فاعرف الضدين ، وأنزل كل واحد في محله ، تكنْ عارفًا بالله ، فإن أردت أن تعرفه بضد واحد بقيت جاهلاً به . فالحكمة تثبت العبودية صورة صونًا لكنز الربوبية ، والقدرة تغيبك عنها بشهود أسرار الربوبية ، وفي الحكم : " سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية " . فالعبودية لازمة من حيث العبد ، والغيبة عنها واجبة من حيث الرب ، فإثبات العبودية ، حكمةً ، فرق ، والغيبة عنها في شهود أنوار الربوبية : جمع ، فالعارف مجموع في فرقه ، مفروق في جمعه . ولما ذكر قبائح الكفرة أتبعه بذكر محاسن المؤمنين .