Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 204-207)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : نزلت الآية في الأخنَسْ بن شريق الثقفي وصُهيب بن سنان الرومي ، أما الأخنس فكان رجلاً حسن المنظر ، حُلُو المنطق ، كان يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدَّعي الإسلام ، ثم ارتد ، ومرَّ على زرع وحُمر للمسلمين فقتلها وأفسد الزرع ، قال ابن عطية : ولم يثبت أنه أسلم . قلت : بل ذكره في القاموس من الصحابة ، فانظره ، ولعله تاب بعد نزول الآية . وأما صهيب الرومي فأخذه المشركون وعذبوه ليرتد ، فقال لهم : إني شيخ كبير لا أنفعكم إن كنت معكم ، ولا أضركم إن كنت عليكم ، فخلّوني وما أنا عليه ، وخذوا مالي ، فقبلوه منه ، وأتى المدينة فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " رَبِحْتَ يا أَبَا يَحْيى " . وقيل : نزلت في المنافقين ومَنْ نحَا نحوهم ، وفيمن باع نفسه لله في الجهاد وتغيير المنكر من المسلمين . و { في الحياة الدنيا } يتعلق بالقول ، و { ألد الخصام } شديده ، وفي الحديث : " أبْغَضُ الرِّجالِ إلى اللّهِ الألدُّ الخَصِم " والخِصام : مصدر ، أو جمع خصيم . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن الناس } قوم حُلْ اللسان خرَاب الجَنَان ، إذا تكلم في شأن الدنيا { يعجبك قوله } فيها لرونقه وفصاحته ، { ويُشهد الله } أي : يحلف على أنه موافق لقلبه ، وأن ظاهره موافق لباطنه ، وهو شديد الخصومة والعدواة للمسلمين ، أو أشد الخصوم ، { وإذا تولى } أي : أدبر وانصرف عنك ، { سعى في الأرض } أي : مشى فيها بنية الإفساد { ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } كما فعل الأخنَسْ ، أو كما فعله أهل الظلم ، فيَحْبِسُ الله القَطْر ، فَيَهْلِكَ الحرثُ والنسل بشؤم معاصيهم ، { والله لا يحب الفساد } أي : لا يرتضيه ، فاحذروا غضبه . { وإذا قيل له اتق الله } وارجع عما أنت عليه من الفساد { أخذته العزة } أي : حملته الحمية والأنفة بسبب الإثم الذي ارتكبه ، فلا ينزجر عن غَيِّه . أو حملَتْه الحمية على الإثم الذي يُؤمَر باتقائه . { فحسبه جهنم } أي : كَفَته عذاباً وعقاباً ، وهي عَلَمٌ لدار العقاب ، كالنار ، { ولبئس المهاد } هي : أي : بئس الفراش الذي مهَّده لنفسه . ونزل في مقابله ، وهو صهيب ، أو كل من بذل نفسه لله : { ونم الناس من يشري نفسه } أي : يبيعُها ويبذلها لله في الجهاد وغيره ، { ابتغاء مرضات الله } والوصول إلى حضرته { والله رؤوف بالعباد } الذين يفعلون مثل هذا ، فيدرأ عنهم المضَارّ ، ويجلبُ لهم المَسَار أينما حَلُّوا من الدارين . الإشارة : الناس على قسمين : قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم ، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح ، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس ، أعجبَك قولهم ، وراقك منظرُهم ، وإذا تكلموا في الآخرة ، أو في المعنى ، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة . وفي بعض الكتب المنزلة : " إنَّ مِنْ عِبَاد الله قوماً ألْسنَتُهُم أحْلَى منَ العَسَلِ ، وَقُلُوبُهُمْ أمرّ مِنْ الصَّبْرِ ، يَلْبَسُونَ للنَّاس جُلُودَ الضَّأنِ مِن اللِّينِ ، يَجْتَرُّون الدُّنْيَا بالدين ، يَقُولُ الله تعالى : أبِي يَغْتَرُّونَ ، وعليَّ يَجْترِئُون ؟ حَلَفتْ لأُسلطنَّ عليهمْ فتْنةٌ تَدَعُ الْحَليم مِنْهُمْ حَيْرَانَ " . وقوله : { يلبسون … } الخ . كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا ، ومع ذلك يدعي موافقة ظاهره لباطنه ، وهو شديد الخصومة لأهل الله ، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب ، ليُفسد في الأرض ، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه ، وإذا ذُكِّر : أنِفَ واستكبر ، وأخذته حمية الجاهلية ، فحسبُه البُعد في نار القطيعة . والقسم الثاني : قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم ، عمّروا قلوبهم بمحبة الله ، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله ، قلوبهم في أعلى عليين ، وأشباحهم في أسفل سافلين ، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين . قال بعض العارفين : كلما وضعت نفسك أرضاً أرضاً ، سما قلبك سماء سماء ، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك . وفي الحديث : " مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره " وبالله التوفيق .