Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 72-73)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : حق هذه الآية أن تتقدم قبل قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ … } [ البَقَرَة : 67 ] وإنما أخَّرها الحق تعالى ليتوجه العتاب إليهم مرتين على ترك المسارعة لامتثال أمر نبيهم ، وعلى قتل النفس ، ولو قدمها لكانت قصة واحدة بتوبيخ واحد . يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكروا { إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } حرصاً على الدنيا { فَادَّارَأْتُمْ } أي : تدافعتم في شأنها ، كل قرية تدفع عنها ، { والله } تعالى { مُخْرِجٌ } ومبين { مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } من القتل ، ومن قتله ، { فَقُلْنَا } : اضربوا القتيل أو قبره { بِبَعْضِهَا } قيل : اللسان ، وقيل القلب ، وقيل : الفخد أو الذنب ، فضربوه فحيى ، وأخبر بقاتله كما تقدم ، { كَذَلِكَ } أي : كما أحيا هذا القتيل ، { يُحْيِي الله الموتى } من قبورها { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } الدالّة على قدرته ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فتعلمون أن من قدر على إحياء نفس واحد يقدر على إحياء الأنفس كلها . واستدلت المالكية بالقصة على التدمية الحمراء ، وهي قبول قول القتيل قبل موته بأن فلاناً قتله ، وفيه نظر لأن هذا حيى بعد موته فلا يتطرقه الكذب ، واستدلت أيضاً على حرمان القتل من الإرث ، وفيه نظر لأن هذه شريعة من قبلنا يتطرقها النسخ ، لكن ثبت في الحديث أنه لا يرث . والله تعالى أعلم . الإشارة : إذا أمر الشيخ المريدين بذبح نفوسهم بخرق عوائدها ، فمن تردد منهم في فعل ما تموت به نفسه ، كان ذلك دليلاً على قلة صدقه وضعف نهايته ، ومن بادر منها إلى قتلها دلّ على صدقه وفلاحه ونجح نهايته ، فإذا ماتت النفس بالكلية حييت روحه بالمعرفة والمشاهدة الدائمة ، فلا موت بعدها أبداً ، قال تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى } [ الدّخَان : 56 ] ، وأما الموت الطبيعي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام ، ومن وطن ضيق إلى وطن واسع ، وأنشدوا : @ لا تظُنُّوا الموتَ موتاً إنهُ لَحَيَاةٌ ، وَهْو غايةُ المنَى لا تَرُعْكُم هَجْمَةُ الموتِ فَما هُو إلا انْتِقَالٌ مِنْ هنَا فاخْلَعُوا الأجْسَادَ مشنْ نفُسِكُم تُبْصِرُوا الحقَّ عيَاناً بَيِّنَا @@ قلت : والسيف الذي يُجْهز على النفس ويسرع قتلها هو الذل والفقر ، فمن ذلّ نفسه بين أبناء جنسه ، وخرق عوائد نفسه ، وزهد في الدنيا ، ماتت نفسه في طرفة عين ، وحيِيَتْ روحه ، وظفر بِقُرَّةِ العين ، وهي معرفة مولاه ، والغيبة عما سواه . وكمال الوقت في ذبح النفس أن تكون متوسطة بين الصغر والكبر ، فإن الصغيرة جدّاً لا يؤمن عليها الرجوع ، والكبيرة جدّاً قد يصعب عليها النزوع ، كاملة الأوصاف بحسن الزهد والعفاف ، تسر الناظرين لبهجة منظرها وحسن طلعتها ، وكذلك من كان من أهل الشهود والنظرة ، تَسْحَرُ مشاهدة القلوب ، ويسوقها بسرعة إلى حضرة علام الغيوب ، لما أقيم به من مشاهدته الملكوت ، حتى إن من لاحظه تناسى أحوال البشرية ، واستولت عيله أنوار الروحانية ، وغابت في ذكر الحبيب عن البعيد والقريب ، كما في الحديث : " أولياُء اللَّهِ مَنْ إذا رُؤوا ذُكر الله " ، وتكون أيضاً هذه النفس غير مذللة بطلب الدنيا والحرص عليها ، مسلمة لا عيب فيها ، ولا رِقَّ لشيء من الأثر عليها ، فحينئذٍ تصلح للحضرة ، وتتمتع بنعيم الشهود والنظرة ، لم يبق لخصم الفَرْقِ معها تدارؤٌ ولا نزاع ، بل أقر الخصم وارتفع النزاع .