Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 49-55)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { خَلْقَه } : يحتمل أن يكون اسمًا بمعنى المخلوق ، فيكون مفعولاً أولاً ، و { كل شيء } : مفعولاً ثانيًا ، أو يكون مصدرًا بمعنى الخلقة ، فيكون مفعولاً ثانيًا ، أي : أعطى كل شيء خِلقتَه وصُورته التي هو عليها . يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال } فرعونُ في جواب موسى ، لما أتاه مع أخيه وبلغا الرسالة ، وقالا له ما أمرهما به ربهما ، وإنما حذفه للإيجاز ، وللإشعار بأنهما لما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال من غير تلعثم ، أو بأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به ، فقال لهما فرعون : { فمن ربكما يا موسى } ؟ لم يضف الرب إلى نفسه لغاية عتوه وطغيانه ، بل أضافه إليهما ، وفي الشعراء : { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشُّعَرَاء : 23 ] ، والجمع بينهما تَعدد الدعوة ، ففي كل مرة حكى لنا ما قال . وتخصيص النداء بموسى ، مع توجيه الخطاب إليهما لأنه الأصل في الرسالة ، وهارون وزيره . { قال } موسى عليه السلام مجيبًا له : { ربُنا الذي أعطى كُلَّ شيءٍ خلقه } أي : ربنا هو الذي أعطى كل شيء خلقه ، أي : مخلوقاته مما يحتاجون إليه ويرتفقون به في قوام أبدانهم ومعايشهم ، أو أعطى كل شيء خِلْقته وصُورته التي يختص بها ، ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان . ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا . أو أعطى كل شيء فعله وتصرفه ، فاليد للبطش ، والرجل للمشي ، واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع ، أو أعطى كل شيء شكله من جنسه ، للإنسان زوجةً ، وللبعير ناقةً ، وللفرس رَمْكةً ، وللحمار أتَانًا . { ثم هَدى } إلى طريق الانتفاع والارتقاء ، بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله ، فألهمه الرضاع والأكل والشرب والجماع ، وطلب الرعي وتوفي المهالك ، وكيف يأتي الذكرُ الأنثى . ولمّا كان الخلق - الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام - مقدمًا على الهداية ، التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام ، عطف بثم المفيدة للتراخي . ولقد ساق عليه السلام جوابه على نمط رائق ، وأسلوب لائق حيث بيَّن أنه تعالى عالم قادر بالذات ، خالق لجميع الكائنات ، منعم عليهم بجميع النعم السابغات ، هادٍ لهم إلى طرق المرْتَفقات . { قال } فرعون : { فما بالُ القرونِ الأُولى } أي : ما حالها بعد الموت ، وما فعل الله بها ؟ فقال له موسى : هذا غيب لا يعلمه إلاّ الله ، وهو معنى قوله : { علمها عند ربي } ، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية ، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة ؟ فأجابه عليه السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلةً مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة ، وإنما علمها عند الله عزّ وجلّ . وكأنَّ عدو الله ، لما خاف أن يُبهت ، ويُفتضح ، ويظهر للناس حجة موسى عليه السلام ، أراد أن يصرفه عليه السلام إلى ما لا يعني ، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة فلذلك أعرض عنه ، و { قال علمها عند ربي } ، وهذا أحسن من الأول لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له : من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم ، ومن تولى فقد عُذب وتألّم ، حسبما نطق به قوله تعالى : { والسلام على مَن اتبع الهدى } . وقيل : فما بالها لم تبعث كما يزعم موسى ، أو : ما بالها لم تكن على دينك ، أو : ما بالها كذبت ولم يُصبها عذاب ، وكلها بعيدة . قلت : والذي يظهر أن الطاغية فَهِمَ قوله تعالى : { ثم هدى } أي : إلى الإيمان ، فاعترض بقوله : فما بال القرون الأولى لم تؤمن حتى هلكت ؟ فأجابه موسى عليه السلام بقوله : { علمها عند ربي } ، فهو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى . وقوله : { في كتاب } أي : اللوح المحفوظ ، فقد أثبتت فيه بتفاصيلها ، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن تمكنه وتقريره في علم الله - عزّ وجلّ - تمكن من استحفظ الشيء ، وقيده بالكتابة ، كما يَلوحُ به قوله تعالى : { لا يَضِلُّ ربي } أي : لا يخطئ ابتداء ، { ولا ينسى } فيتذكر . وفيه تنبيه على أن كتابته في اللوح المحفوظ ليس لحاجته إليه في العلم به ابتداء أو بقاءًا . وإظهار { ربي } في موضع الإضمار ، للتلذذ بذكره ، وللإشعار بعلّية الحكم فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان . ولقد أجاب عليه السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع ، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها ، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شؤونه تعالى ، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشيء منها ، لا حقيقة ولا مجازًا ، ولو قال له : هو الخالق الرازق ، وشبه ذلك ، لأمكن أن يغالط ويدعي ذلك لنفسه . ثم تخلص إليه حيث قال : بطريق الحكاية عن الله عزّ وجلّ ، أو من كلامه عليه السلام : { الذي جعل لكمُ الأرضَ مهادًا } أي : كالمهد تتمهدونها بالسكن والقرار ، أي : جعل كل موضع منها مهدًا لكل واحد منكم . { وَسَلَكَ لكم فيها سُبُلاً } أي : طُرقًا تتوصلون بها من قطر إلى قطر ، لتقضوا منها مآربكم ، وتنتفعوا بمرافقها ومنافعها ، ووسطها بين الجبال والأودية لتعرف أمارات سُبلها . { وأنزل من السماء ماءً } هو المطر ، { فأخرجنا به } ، يحتمل أن يكون من كلام الله ، وما قبله من كلام موسى ، أو كله من كلام الله تعالى ، حكاه موسى عليه السلام ، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة ، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ، أي : فأخرجنا بذلك الماء { أزواجًا } : أصنافًا ، سميت أزواجًا لازدواجها ، واقتران بعضها ببعض ، كائنة { من نباتٍ شتى } : متفرقة ، جمع شتيت : أي : متفرق ، وهو ، في الأصل ، مصدر ، يستوي فيه الواحد والجمع ، يعني : أنها مختلفة في الشكل واللون والطعم والرائحة والنفع ، وبعضها صالح للناس على اختلاف صلاحها لهم ، وبعضها للبهائم . ومن تمام نعمته تعالى أن أرزاق عباده ، لمَّا كان تحصيلها بعمل الأنعام ، جعل عَلفَها مما يفضل عن حاجتهم ، ولا يليق بكونه طعامًا لهم ، وهو معنى قوله : { كُلوا وارْعَوا أنعامكم } ، والجملة : حالٌ ، على إرادة القول ، أي : أخرجنا منها أصناف النبات ، قائلين : كلوا وارعوا أنعامكم ، آذنين في ذلك لكم . { إِن في ذلك } المذكور ، من شؤونه تعالى ، وأفعاله وأنعامه ، { لآياتٍ } جليلة واضحة الدلالة على عظيم شأنه تعالى ، في ذاته وصفاته وأفعاله ، وعلى صحة نبوة موسى وهارون - عليهما السلام - ، { لأُولي النُّهَى } أي : العقول الصافية ، جمع " نُهْيَة " ، سمى بها العقل ، لنهيه عن اتباع الباطل ، وارتكاب القبيح ، أي : لذوي العقول الناهية عن الأباطيل ، التي من جملتها ما يدعيه الطاغية وما يقبله منه الفئة الباغية . وتخصيص كونها آيات لهم ، مع أنها آية للعالمين لأنهم المنتفعون بها . { منها خلقناكم } أي : من الأرض الممهدة لكم ، خلقناكم بخلق أبيكم آدم عليه السلام ، وأنتم في ضمنه ، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه عليه السلام ، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواء إجماليًا ، فكان خلقه عليه السلام منها خلقًا لكل منها ، وقيل : خلقت أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض . وقال عطاء : إن المَلَك الموكل بالرحم ينطلق ، فيأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه العبد ، فيذره على النطفة ، فتخلق من التراب ومن النطفة . هـ . { وفيها نُعيدكم } بالإماتة وتفريق الأجزاء ، والكلام على الأشباح دون الأرواح ، فإنها ، بعد السؤال ، تصعد إلى السماء ، كما يأتي عند قوله تعالى : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } [ الواقِعَة : 88 ] الآية . ولم يقل : وإليها نُعيدكم إشارة إلى استقرار العبد فيها ، { ومنها نُخرجكم تارةً أخرى } بتأليف أجزائكم المتفتتة ، المختلطة بالتراب ، على الهيئة السابقة ، ورد الأرواح إليها . وكون هذا الإخراج تارة أخرى : باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها ، وإن لم يكن على التارة الثانية . والتارة في الأصل : اسم للتور ، وهو الجريان ، فالتارة واحدة منه ، ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتحدة ، كما مر في المرة . والله تعالى أعلم . الإشارة : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ، مما سبق لهم في أزله ، ثم هدى إلى الأسباب الموصلة إليه ، فمنهم من كان حظه في الأزل قوت الأشباح ، هداه إلى أسبابها ، وهم أهل مقام البعد ، ومنهم من كان حظه قوت القلوب ، فهداه إلى أسبابها من المجاهدة في الطاعات وأنواع القربات ، وهم أنواع : فمنهم من شغلهم بتدريس العلوم وتدقيق الفهوم ، وتحرير المسائل وتمهيد النوازل ، وهداهم إلى أسباب ذلك ، وهم حملة الشريعة ، إن صحت نيتهم وثبت إخلاصهم . ومنهم من شغلهم بتوالي الطاعات وتعمير الأوقات ، وهداهم إلى أسبابها ، وقواهم على مشاقها ، وهم العباد والزهاد . ومنهم من شغلهم بإطعام الطعام والرفق بالأنام ، وتعمير الزوايا وقبول الهدايا ، وهداهم إلى أسباب عمارتها والقيام بها ، وهم الصالحون . ومنهم : من كان حظه قوت الأرواح ، وهم المريدون السائرون ، أهل الرياضة والتصفية ، والتخلية والتحلية ، والتهذيب والتدريب ، وهداهم إلى أسبابها ، ووصلهم إلى شيخ كامل يُبينها ويسلّكها ، وهم في ذلك مقامات متفاوتة ، على حسب صدقهم وجدهم ، ومنهم من كان حظه قوت الأسرار ، وهم العارفون الكبار ، السابقون المقربون ، أهل الفناء والبقاء ، أهل الرسوخ والتمكين ، فهداهم إلى ما أمّلوا ، ووصلهم إلى ما طلبوا . نفعنا الله بهم ، وخرطنا في سلكهم . آمين . وقوله : { فما بال القرون الأولى … } الآية ، فيه زجر للمريد عن الاشتغال بالحكايات الماضية ، لأن في ذلك شُغُلاً عن الله ، إلا ما كان فيه زيادة إلى الله ، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم . وقوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهادًا } أي : جعل أرض النفوس مهادًا للقيام برسم العبودية ، وسلك فيها سبلاً توصل إلى مشاهدة الربوبية ، لمن سلكها بالرياضة والمجاهدة ، وأنزل من سماء الملكوت ماء الواردات الإلهية ، تحيا به الأرواح ، فتخرج أصنافًا من العلوم والحكم شتى ، كُلوا برعي القلوب في نِوار تجلياتها ، وارعوا لقوت أشباحكم من ثمار حسياتها ، إن في ذلك لآيات لأولي النُهى . { منها خلقناكم } : من أرض نفوسكم أخرجناكم ، بشهود عظمة الربوبية ، وفيها نُعيدكم للقيام برسم العبودية ، ومنها نُخرجكم لتكونوا لله ، لا لشيء دونه . أو منها خلقناكم ، أي : أخرجناكم من شهود ظلمتها إلى نور خالقها ، بالفناء عنها ، وفيها نُعيدكم بالرجوع إلى الأثر في مقام البقاء ، { ومنها نُخرجكم تارة أخرى } بعقد الحرية في مقام البقاء ، فتكونوا عبيدًا شُكَّرًا . وبالله التوفيق . ثمَّ إنَّ فرعون لم ينفعه هذه الموعظة ولا ما رأى من الآيات الباهرة …