Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 83-88)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله لموسى عليه السلام ، لما ذهب إلى الطور ، لموافاة الميقات ، للعهد الذي عهد إليه ، واختار سبعين من بني إسرائيل ، يحضرون معه لأخذ التوراة بأمره تعالى ، فلما دنا من الجبل حمله الشوق ، فاستعجل إلى الجبل ، وترك قومه أسفله ، فقال له الحق جلّ جلاله : { وما أعجَلَكَ عن قومك يا موسى } أي : ما حملك على العَجَلَة ، وأيُّ شيء أعجلك منفردًا عن قومك ، وقد أمرتك باستصحابهم ، ولعل في إفرادك عنهم عدم اعتناء بهم ؟ فأجاب عليه السلام بقول : { هُمْ أُولاءِ على أَثَري } أي : هم هؤلاء قريبًا مني ، فهُم معي ، وإنما سبقتهم بخطا يسيرة ، ظننت أنها لا تُخلُّ بالمعية ، ولا تقدح في الاستصحاب ، فإن ذلك مما لا يُعتد به فيما بين الرفقة . قال الكواشي : ولما كان سُؤال الرب تعالى لموسى يقتضي شيئين : أحدهما : إنكار العَجَلة ، والثاني : السؤال عن السبب والحامل عليها ، كان أهم الأمرين إلى موسى بسَطَ العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتل أن قال : إن ما وُجدَ مني تقدم يسير ، لا يُعتد بمثله في العادة لقربه ، كما يتقدم الوفدَ رئيسُهم ومُتقدمُهم ، ثم عقبه بجواب السؤال فقال : { عَجِلْتُ إِليك رَبِّ لِترضَى } لتزداد عني رضا لمسارعتي إلى الامتثال لأمرك ، واعتنائي بالوفاء بعهدك لأنه ظن أن إسراعه إليه أبلغ في رضاه . وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء - عليهم السلام - والمعنى : لتعلم أني أُحبك ولا قرار لي مع غيرك . هـ . وقال القشيري : { هم أولاء على أثري } ما خلَّفْتُهم لتضييعي إياهم ، ولكن عَجِلْتُ إليك ربِّ لترضى . قال : يا موسى ، رضائي في أن تكون مَعهم ، ولا تتقدمهم ولا تَسْبِقَهم ، وكونُكَ مع الضعفاءِ ، الذين استصحبتهم في حصول رضاي ، أبلغُ مِن تَقَدُّمِكَ عليهم . هـ . { قال } له تعالى : { فإِنا فتنَّا قومَك من بعدِك } أي : ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم . رُوِيَ أنهم أقاموا على ما وصاهم به موسى عليه السلام عشرين ليلة ، بعد ذهابه ، فحسبوها مع أيامها أربعين ، وقالوا : قد أكملنا العدة ، وليس من موسى عين ولا أثر ، وكان وعدهم أن يغيب عنهم أربعين يومًا ، واستخلف هارون على من بقي منهم ، وكانوا ستمائة ألف ، فافتتنوا بعبادة العجل كلهم ، ما نجا منهم إلا اثنا عشر ألفًا . وهذا معنى قوله تعالى : { وأضلَّهُمُ السامريُّ } ، حيث كان هو السبب في فتنتهم ، فقال لهم : إنما أخلف موسى عليه السلام ميعادكم لِمَا معكم من حُليّ القوم ، فهو حرام عليكم ، فكان من أمر العِجل ما يأتي تفسيره إن شاء الله . فإخباره تعالى بهذه الفتنة عند قدومه عليه السلام ، قبل وقوعها ، إما باعتبار تحققها في علمه تعالى ، وإما باعتبار التعبير عن المتوقع بالواقع ، كما في قوله تعالى : { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [ الأعرَاف : 44 ] ، أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام ، وتصدى لها بترتيب مبادئها ، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها . والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل ، يقال لها : سامرة ، وقيل : كان رجلاً من كرمان . وقال ابنُ عباس : كان من قرية يعبدون البقر ، فدخل في بني إسرائيل وأظهر الإسلام ، وفي قلبه ما فيه من حب عبادة البقرة ، فابتلى اللهُ به بني إسرائيل ، واسمه : موسى بن ظفر . { فرجع موسى إلى قومه } بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة ، لا عقب الإخبار بالفتنة ، كما يتوهم من قوله تعالى : { غضبانَ أسِفًا } ، فإن كون الرجوع بعد الأربعين أمر مقرر مشهور ، يرفع كون الرجوع عقب الفتنة . والأسف : أشد الغضب ، وقيل : أسفًا : حزينًا جزعًا على ضلال قومه . { قال يا قوم ألم يَعِدْكُم ربُّكم وعدًا حسنًا } بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى ، { أَفَطَالَ عليكم العهدُ } أي : مدة مفارقتي إياكم . والهمزة للإنكار ، والمعطوف محذوف ، أي : أوَعَدَكم ذلك فطال زمان الإنجاز ، فأخطأتم بسببه ، { أم أردتم أن يَحِلَّ عليكم غضبٌ } شديد كائن { من ربكم } أي : من مالك أمركم ، { فأخلفتم موعدي } أي : وعدي إياكم بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات ، أو وعْدَكم إياي بأن تثبتُوا على ما أمرتكم به ، على إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله ، والفاء ، لترتيب ما بعدها ، كأنه قيل : أنسيتم الوعد بطول العهد فأخلفتموني خطأ { أم أردتم } حلول الغضب عليكم فأخلفتموه عمدًا . { قالوا ما أخلفنا موعدك } أي : وعدنا إياك بالثبات على ما أمرتنا به ، { بمَلْكنا } أي : بسلطاننا وقدرتنا ، ونحن نملك أمرنا . وفيه لغتان : فتح الميم وكسرها . يعنون : لو خلينا وأُمورَنا ، ولم يسوِّل لنا السامريُّ ما سوله ، ما أخلفنا ، ولكن غلبنا على أمرنا ، واستغوانا السامري مع مساعدة الأحوال . وقال القشيري : أي : لم نكن في ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حَصَلَ مِنَّا ، ولا عالمين بما آلَتْ إليه عاقبة أمرِنَا ، وإنَّ الذي حملنا عليه حُلِيّ القبط ، صاغَ السامريُّ منه العجلَ ، فآل الأمر إلى ما بلغ من الشر ، وكذلك الحرامُ لا يخلو شؤمُه من الفتنة والشر . هـ . وقوله تعالى : { ولكِنَّا حُمِّلْنَا أوزارًا من زينةِ القوم } ، استدراك عما سبق ، واعتذار ببيان منشأ الخطأ ، أي : حملنا أحمالاً من حُليّ القبط ، التي استعرناها منهم ، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس . وقيل : كانوا استعاروها لعيد كان لهم ، ثم لم يردوها إليهم ، مخافة أن يقفوا على أمرهم . وقيل : لما رمى البحر أجساد القبط ، وكان غالب ثيابهم الذهب والفضة ، التقطها بنو إسرائيل ، فهي زينة القوم التي صيغ منها العجل ، ولعل تسميتها أوزارًا لأنها تبعات وآثام ، حيث لم تحل الغنائم لهم . { فقذفناها } أي : في النار رجاء الخلاص من عقوبتها ، أو قذفناها إلى السامري وألقاها في النار ، { فكذلك ألقى السامريُّ } ما كان معه منها كما ألقيناه ، أو ألقى ما كان معه من تراب حافر فَرس جبريل ، كان قد صرَّه في عمامته ، وكان ألقى إليه الشيطان : أنه ما خالط شيئًا إلا حيى ، فألقاه في فمه فصار يخور . رُوِيَ : أنه قال لهم : إنما تأخر موسى عنكم ، لما معكم من الأوزار ، فالرأي أن نحفر حفرة ويُسجر فيها نار ، ونقذف فيها كل ما معنا ، ففعلوا ، { فأخرج لهم } من ذلك الحليّ المذاب { عِجْلاً } أي : صورة عجل { جَسدًا } أي : جثة ذات لحم ودم ، أو جسدًا من ذهب لا روح فيه ، { له خُوار } أي : صوت عِجْل ، { فقالوا } أي : السامري ومن افتتن به : { هذا إِلهكم وإِله موسى فَنَسِيَ } أي : غفل عنه وذهب يطلبه في الطور . فقوله تعالى : { فَأخْرجَ لهم … } الخ … هو من كلام الله تعالى ، حكاية لنتيجة فتنة السامري ، قولاً وفعلاً ، قصدًا إلى زيادة تقريرها ، وتمهيدًا للإنكار عليهم ، وليس من كلام المعتذرين ، وإلا لقال : فَأَخْرجَ لنا … والله تعالى أعلم . الإشارة : ينبغي لرئيس القوم ، إذا كان في سفر ، أن يكون وسَطهم ، أو سائقًا لهم ، ولا يتقدمهم أو يستعجل لأمر عنهم ، فإن التأني كله من الله ، والعَجَلة كلها من الشيطان ، والخير كله في الاجتماع مع الضعفاء والمساكين ، حتى يكون كأحدهم ، فإن فارقهم ، لأمر مهم ، فليستخلف عليهم من يثق به في دينه ، وليكن اعتماده في ذلك على ربه ، ونظره كله إلى رعايته وحفظه . قال الكواشي : عن ابن عطاء : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : أتدري من أين أُتيت ؟ - يعني في فتنة قومه - قال : لا يا رب ، قال : حين قلت لهارون : اخلفني في قومي ، أين كنتُ أنا حين اعتمدتَ على هارون ؟ . هـ . فكل فتنة أو ضلال يُصيب الفقراء ، فإنما ذلك من عدم الاجتماع مع أهل الفن ، أو قلة الاستماع لهم ، فإن أصابتهم فتنة الأسباب ، والركون إلى شيء من الدنيا في غيبة الشيخ ، فليرجع إليهم غضبان أسفًا ، وليقل لهم : ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا ، وهو الفتح الكبير لو صبرتم على السير والتجريد ، أفطال عليكم العهد ، فقد كانت الرجال تمكث في خدمة الأشياخ العشرين والثلاثين سنة ، أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ، بالإبعاد وإسْدَال الحجاب ، حيث خالفتم عهود أشياخكم ، فإن اعتذروا فليقبل عذرهم ، وإن ركنوا إلى عبادة شيء من عجل الدنيا فليخرجه من أيديهم ، وليقل : وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا ، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفًا . وبالله التوفيق . ثمَّ ذكر الانكار على عبدة العجل