Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 19-25)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { وله من في السماوات والأرض } أي له جميع المخلوقات ، خلقًا ومِلكًا ، وتدبيرًا وتصرفًا ، وإحياء وإِماتة ، وتعذيبًا وإثابة ، من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل ، لا استقلالاً ولا استتباعًا ، ولا فرق بين أهل العالم العلوي والسفلي ، { ومَنْ عنده } وهم الملائكة - عليهم السلام - عبَّر عنهم بذلك إثر ما عبَّر عنهم بمن في السماوات تنزيلاً لهم - لكرامتهم عليه ، وزلفاهم عنده - منزلة المقربين عند الملك ، وهو مبتدأ وخبره : { لا يستكبرون عن عبادته } أي : لا يتعاظمون عنها ، ولا يَعُدون أنفسهم كبراء ، { ولا يستحسرون } أي : لا يكِلُّون ولا يَعْيون ، { يُسبِّحُون الليلَ والنهار } أي : ينزهونه في جميع الأوقات ، ويُعظمونه ويمجدونه دائمًا . وهو استئناف بياني ، كأنه قيل : ماذا يصنعون في عبادتهم ، أو كيف يعبدون ؟ فقال : يُسبحون … الخ . { لا يَفْتَرُون } أي : لا يتخلل تسبيحَهم فترة أصلاً ، ولا شغل آخر . ولمّا برهن على وحدانيته تعالى في ملكه بأنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة ، وأنهم قاطبة تحت ملكه وقهره ، وأنَّ عباده مذعنون لطاعته ، ومثابرون على عبادته ، ومنزهون له عن كل ما لا يليق بشأنه ، أنكر على من أشرك معه بعد هذا البيان ، فقال : { أم اتخذوا آلهة } يعبدونها { من الأرض } أي : اتخذوها من جنس الأرض ، أحجارًا وخشبًا ، { هم يُنْشِرُون } أي : يبعثون الموتى . وهذا هو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع ، لا نفس الاتخاذ ، فإنه واقع لا محالة ، أي : بل اتخذوا آلهة من الأرض ، هم مع حقارتهم ، ينشرون الموتى ، كلا … فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك ، وهم ، وإن لم يقولوا بذلك صريحًا ، لكنهم حيث ادعوا لها الألوهية ، فكأنهم ادعوا لها الإنشار ، ضرورة لأنه من خصائص الإلهية ، ومعنى التخصيص في تقديم الضمير في : { هم يُنشِرون } : التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار ، الموجبة لمزيد الإنكار ، كما في قوله تعالى : { أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ } [ إبراهيم : 10 ] . وفي قوله تعالى : { أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } [ التّوبَة : 65 ] ، فإنَّ تقديم الجار والمجرور للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به . ثم أبطل الاشتراك في الألوهية ، فقال : { لو كان فيهما آلهةً إِلا الله } أي : لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله ، كما هو اعتقادهم الباطل ، { لفسدَتَا } أي : لفسد نظامهما بما فيهما ، لوجود التمانع ، كعادة الملوك ، أو لبطلتا بما فيهما ، ولم يوجد شيء منهما للزوم العجز لهما ، بيان ذلك : أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاسْتِبْدَادِ بالتصرف فيهما على الإطلاق ، تغييرًا وبديلاً ، وإيجادًا وإعدامًا ، وإحياء وإماتة ، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد ، إما بتأثير كل منها ، وهو محال لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين ، وإما بتأثير واحد منها ، فالباقي بمعزل عن الإلهية ، والمسألة مقررة في علم الكلام . و { إلا } : صفة لآلهة ، كما يُوصف بغير ، ولمَّا كانت حرفًا ، ظهر إعرابها في اسم الجلالة ، ولا يصح رفعه على البدل لعدم وجود النفي . ثم قال تعالى : { فسبحان الله } أي : فسبحوا سُبحان الله اللائق به ، وننزهوه عما لا يليق به من الأمور ، التي من جملتها : أن يكون له شريك في الألوهية . وإيراد الجلالة في موضع الإضمار ، حيث لم يقل فسبحانه للإشعار بعلية الحكم ، فإنَّ الألوهية مناط لجميع صفات كماله ، التي من جملتها : تنزهه تعالى عما لا يليق به ، ولتربية المهابة وإدخال الروعة . ثم وصفه بقوله : { ربِّ العرش } ، وخصه بالذكر ، مع كونه رب كل شيء لعظم شأنه لأنَّ الأكوان في جوفه كلا شيء ، أي : تنزيهًا له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة . ثم بيَّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر ، فقال : { لا يُسأل عما يَفعل } أي : لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل هيبةً وإجلالاً ، { وهم يُسألون } أي : وعباده يُسألون عما يفعلون ، نقيرًا وقطميرًا لأنهم مملوكون له تعالى ، مستعبدون ، ففيه وعيد للكفرة ، فالآية تتميم لقوله : { لاعبين } ، بل خلقنا الأشياء كلها لحكمة ، فمنها ما أدركتم حكمته ، ومنها ما غاب عنكم ، فكِلُوا أمره إلى الله ، ولا تسألوه عما يفعل ، فإنه لا يُسأل عن فعله ، وأنتم تُسألون . ثم قال تعالى : { أم اتخذوا من دونه آلهة } ، هو إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة بإظهار خلوها من خصائص الألوهية ، التي من جملتها إنشار الموتى ، وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعدد الإله ، إلى إظهار بُطلان اتخاذهم تلك الآلهة ، مع عرائها عن تلك الخصائص ، وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة . والهمزة : لإنكار ما اتخذوه واستقباحه ، أي : بل اتخذوا من دونه - أي : متجاوزين إياه تعالى ، مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية - آلهة ، مع ظهور خلوهم عن خصوص الإلهية بالكلية . { قلْ } لهم ، بطريق التبكيت : { هاتُوا برهانكم } على ما تَدَّعونَه ، من جهة العقل والنقل فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية ، لا سيما في هذا الأمر الخطير ، فإن بُهتوا فقل لهم : { هذا ذكر مَنْ معي وذكر مَنْ قبلي } أي : بهذا نطقت الكتب السماوية قاطبة ، وشهدت به سُنَّة الرسل المتقدمة كافة . فهذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع { ذُكرُ من معي } من أمتي ، أي : عظتهم ، { وذكرُ مَن قبلي } من الأمم السالفة ، أي : بهذا أمَرنا ربُنا ووعظنا ، وبه أمر مَنْ قبلنا ، يعني : انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه بها . وقيل : المعنى : هذا كتاب أُنزل على أمتي ، وهذا كتاب أُنزل على أمم الأنبياء - عليهم السلام - قبلي ، فانظروا : هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ، ففيه تبكيت لهم . { بل أكثرهم لا يعلمون الحقَّ } أي : لا يفهمونه ، ولا يميزون بينه وبين الباطل ، فهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بمطالبة البرهان ، إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المحاججة لجهلهم وعنادهم ، ولذلك قال : { فهم معرضون } أي : فهم لأجل جهلهم وعتوهم مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول ، لا يَرْعَوُونَ عما هم عليه من الغي والضلال ، وإن كررت عليهم البينات والحجج . أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية لانهماكهم . { وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ من رسولٍ إِلا يوحى إِليه أنه لا إِله إِلا أنا فاعبدون } ، هذا مقرر لما قبله من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية ، وأجمعت عليه الرسل - عليهم السلام - قاطبة . وصيغة المضارع في يوحى لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورة الوحي العجيبة . والله تعالى أعلم . الإشارة : قوله تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } ، العندية ، هنا ، عندية اصطفاء وتقريب ، وهذه صفة العارفين المقربين ، لا يستكبرون عن عبادته ، بل خاضعون لجلاله وقهريته على الدوام ، ولا يستحسرون : لا يملُّون منها ولا يشبعون ، غير أنهم يتلونون فيها من عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب كالتفكر والاعتبار ، إلى عبادة الأرواح كالشهود والاستبصار ، إلى عبادة الأسرار كالعكوف في حضرة الكريم الغفار ، يُنزهون الله تعالى في جميع الأوقات ، لا يفترون عن تسبيحه بالمقال أو الحال . وقوله تعالى : { أم اتخذوا آلهة … } الخ ، تَصْدُق على من مال بقلبه إلى محبة الأكوان ، أو ركن إلى الحظوظ والشهوات ، وقوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إِلا الله لفسدتا } ، اعلم أن ثلاثة اشياء إذا تعدد مدبرها فسد نظامها أولها : الألوهية ، فلو تعددت لفسد نظام العالم ، وثانيها : السلطنة ، إذا تعددت في قُطْر واحد فسدت الرعية ، وثالثها : الشيخوخة ، إذا تعددت على مريد واحد فسدت ترتبيته ، كالطبيب إذا تعدد على مريض واحد فسد علاجه . والله تعالى أعلم . وقوله تعالى : { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } قال الكواشي : يعني : لا يُسأل عن فعله وحُكمه لأنه الرب ، وهم يُسألون لأنهم عبيده . وبعض الناس يقول : هذه آية الدبوس . قلت : وقد تقلب السين زايًا ، ومعناها : أن كل ما تحكم به القدرة يجب حنو الرأس له ، من غير تردد ولا سؤال . ثم قال : ولو نظر النظر الصحيح لرآها أنصف آية في كتاب الله تعالى وذلك لأنه جمع فيها بين صفة الربوبية وصفة العبودية . هـ . وقوله : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إِلا نُوحيَ إِليه أنه لا إله إلا أنا } يعني : أن التوحيد مما أجمعت عليه الرسل والكتب السماوية . والفناء فيه على ثلاثة أقسام : فناء في توحيد الأفعال ، وهو ألا يرى الفعل إلا من الله ، ويغيب عن الوسائط والأسباب ، وفناء في توحيد الصفات ، وهو أن يرى ألا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم إلا الله ، وفناء في توحيد الذات ، وهو أن يرى ألا موجود إلا الله ، ذوقًا ووجدًا وعقدًا . كما قال صاحب العينية : @ هُوَ الموجِدُ الأشْيَاءِ وَهْوَ وُجُودُهَا وعَيْنُ ذَوَاتِ الكُلِّ وَهْوَ الجَوَامِعُ @@ وقد أشار بعضهم إلى هذه الفناءات ، فقال : @ فيفنى ثم يفنى ثم يفنى فكان فناؤه عين البقاءِ @@ وهنا - أي : في مقام الفناء والبقاء - انتهت أقدام السائرين ، ورسخت أسرار العارفين ، مع ترقيات وكشوفات أبد الآبدين ، جعلنا الله من حزبهم . آمين . ثمَّ انكر على من ادعى الولد له