Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 106-114)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { قالوا } أي : أهل النار { ربنا غلبت علينا } أي : ملكتنا { شِقْوَتُنا } : شقاوتنا التي اقترفناها بسوء اختيارنا ، كما يُنبئ عنه إضافتها إلى أنفسهم ، أي : شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها ، ولا يصح حمله على الشقاوة الأزلية لأنهم غير مكلفين بصرفها عنهم إذ ليس في اختيارهم . { وكنا قوماً ضالِّين } عن الحق ، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب ، وهذا ، كما ترى ، اعتراف منهم بأن ما أصابهم إنما أصابهم بسوء صنعهم ، وأمَّا ما قيل : من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية ، فلا يصح لأن الله تعالى ما كتب عليهم الشقاء حتى علم أنهم يفعلونه باختيارهم ، لا بما كتب عليهم . ثم قالوا : { ربنا أَخْرِجْنَا منها فَإِن عُدْنا فإِنا ظالمون } أي : أخرجنا من النار ، وردنا إلى الدنيا ، فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي ، فإنا متجاوزون الحد في الظلم ، ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ، ولما وَعَدوا بالطاعة والإيمان . قال القرطبي : طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت . ثم يجيبهم الحق تعالى ، بعد ألف سنة ، بقوله : { قال اخسؤوا فيها } أي : اسكتوا في النار سكوت ذل وهوان ، وانزجروا انزجار الكلاب ، يقال : خسأت الكلب ، إذا زجرته ، فخسأ ، أي : انزجر . { ولا تُكَلِّمونِ } باستدعاء الإخراج من النار والرجوع إلى الدنيا ، أو في رفع العذاب عنكم فإنه لا يرفع ولا يخفف ، روي أنه آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلاَّ الشهيق والزفير ، ويصير لهم عُواء كعُواء الكلاب لا يفهمون ولا يُفهمون . قيل : ويرده الخطابات الآتية ، وقد يجاب : بأن قبل هذه الكلمة . ثم علل استحقاقهم لذلك العذاب بقوله : { إنه } أي : الأمر والشأن { كان فريق من عبادي } وهم المؤمنون ، او الصحابة ، أو أهل الصفة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - { يقولون } في الدنيا : { ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا } أي : هزواً ، وهو مصدر سخر ، زيدت فيه ياء النسب للمبالغة ، وفيه الضم والكسر . وقال الكوفيون : المكسور بمعنى الهزء ، والمضموم من السخرة ، بمعنى الانقياد للخدمة ، ولذلك اتفق عليه في الزخرف ، أي : اتخذتموهم مهزواً بهم ، وتشاغلتم بهم { حتى أَنْسَوْكم ذكري } ، من فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم ، ولم تخافوني في أوليائي ، { وكنتم منهم تضحكون } ، وذلك غاية الاستهزاء . قال تعالى : { إني جَزَيْتُهُم اليوم } جزاء على صبرهم على أذاكم ، { أنهم همُ الفائزون } بكل مطلوب دونكم ، فأنهم : مفعول " جزيتهم " لأنه يتعدى إلى مفعولين ، وقرأ حمزة بالكسر على الإستئناف تعليلاً للجزاء ، وبياناً أنه في غاية الحسن ، { قال كم لبثتم } ، القائل هو الله تعالى ، أو الملك ، وقرأ المكي وحمزة : " قل " التي بلفظ الأمر للملك ، يسألهم : كم لبثوا ، { في الأرض } التي دعوا الله أن يردهم إليها ، { عدد سنين } ، وهو تمييز ، أي : كم لبثتم في الأرض عدد السنين ، { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } ، استقصار لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم ، ولِمَا هم فيه من عذابها لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة ، { فاسْئَل العادِين } أي : المتمكنين من العد فإنا بما دُهمنا من العذاب بمعزل من العد ، أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم . { قال } الله تعالى ، أو الملك ، تصديقاً لهم في مقالهم : { إن لبثتم إلاَّ قليلاً } : ما لبثتم إلا زماناً قليلاً أو لبثاً قليلاً بالنسبة لما بعده ، { لو أنكم كنتم تعلمون } شيئاً ، أو : لو كنتم من أهل العلم لعلمتم قلة لبثكم فيها ، فالجواب محذوف . والله تعالى أعلم . الإشارة : إذا تميز المتحابون في الله ، المجتمعون على ذكر الله ومحبته وطلب معرفته ، وعُرفوا بأنوارهم وأسرارهم ، وانحازوا إلى ظل العرش ، يوم لا ظل إلا ظله ، ورآهم البطالون المنكرون عليهم ، وهم في حسرة الحساب ، يقولون بلسان الحال أو المقال : ربنا غلبت علينا شقوتنا حيث لم نصحب هؤلاء الأولياء ، وكنا قوماً ضالين ، ربنا أخرجنا من هذه الحسرة ، وردنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى البطالة والإنكار عليهم فإنا ظالمون ، فيقال لهم : اخسؤوا فيها فقد فات الإبان ، إنه كان فريق من عبادي ، وهم المنتسبون من أهل التجريد ، المتزيون بزي الصوفية أهل التفريد ، يقولون : ربنا آمنا بطريق الخصوصية ودخلنا فيها ، فاغفر لنا ، أي : غط مساوئنا ، وارحمنا رحمة تضمنا إلى حضرتك ، وأنت خير الراحمين ، فاتخذتموهم سخرياً ، وانشغلتم بالوقوع فيهم ، حتى أنسوكم ذكري ، وكنتم منهم تضحكون ، إني جزيتهم اليوم ، بما صبروا ، أنهم هم الفائزون بشهود ذاتي ، والقرب من أحبابي ، المتنزهون في كمال جمالي ، في درجات المقربين من النبيين والصديقين . قال القشيري : الحق ينتقم من أعدائه بما يُطَيَّبُ به قلوبَ أوليائه ، وتلك خَصْمَةُ الحق ، فيقول لهم : كان فريقٌ من أوليائي يُفْصِحون بمدحي وإطرائي ، فاتخذتموهم سخرياً ، فأنا اليوم أُجازيهم ، وأنتقم ممن كان يناويهم . هـ . قوله تعالى : { قال كم لبثتم … } إلخ ، اعلم أن أيام الدنيا كلها تقصر عند انقضاء عمر العبد ، فتعود كيوم واحد ، أو بعض يوم ، فإن أفضى إلى الراحة بعد الموت نسي أيام التعب ، وغاب عنها ، فتصير كأضغاث أحلام ، وإن أفضى إلى التعب ، نسي أيام الراحة كأنها طيف منام . قال في الحاشية : الأشياء وإن كانت كثيرة فقد تنقص وتقل بالإضافة إلى ما يرجّى عليها كذلك مدة مقامهم تحت الأرض إن كانوا في الراحة فقد تقل ، بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها في القيامة ، وإن كانت شديدة فقد تتلاشى في جنب رؤية ذلك اليوم لما فيه من أليم تلك العقوبات المتوالية . هـ . ثمَّ تممَّ توبيخيهم يوم القيامة