Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 17-22)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : " سيناء " ، مَنْ فتحها : جعل همزتها للتأنيث ، فلم يصرفه للتأنيث والوصف ، كحمراء ، أو لألف التأنيث ، لقيامه مقام علتين ، ومن كسرها : لم يصرفه للتعريف والعجمة ، وهذا البناء ليس من أبنية التأنيث ، وإنما ألفُهُ ألف الإلحاق ، كعلِباء وجِرباء . ونبت وأنبت : لغتان بمعنى واحد وكذلك سقى وأسقى . يقول الحق جل جلاله : { ولقد خلقنا فوقكم سبعَ طرائق } ، وهي السموات السبع ، جمع طريقة لأنها طرق الملائكة وتقلباتها ، وطرق الكواكب ، فيها مسيرها { وما كنا عن الخلق غافلين } ، أراد بالخلق السموات ، كأنه قال : خلقناها وما غفلنا عن حفظها وإمساكها ، أو الناس ، أي : خلقناها فوقكم لنفتح عليكم منها الأرزاق والبركات ، وما كنا غافلين عنكم وعما يصلحكم ، أو : خلقناها فوقكم ، وما حالت بيننا وبينكم ، بل نحن أقرب إليكم من كل شيء ، فلا نغفل عن شيء من أمركم ، قلَّ أو جلَّ . { وأنزلنا من السماء ماءً } هو المطر ، وقيل : الأنهار النازلة من الجنة ، وهي خمسة : سَيْحُون نهر الهند ، وَجَيْحونُ نهر بلخ ، ودِجْلَةُ والفُراتُ نهرا العراق ، والنيل نهر مصر ، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة . هـ . وقوله تعالى { بقدَرِ } أي : بتقدير ، يَسْلَمون معه من المضرة ، ويصلون إلى المنفعة ، أو بمقدار ما علمنا بهم من الحاجة ، أو : بقدر سابق لا يزيد عليه ولا ينقص ، { فأسكناه في الأرض } أي : جعلناه ثابتاً قاراً فيها ، كقوله : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 21 ] ، فماء الأرض كله من السماء ، { وإنا على ذهاب به } أي : إزالته بالإفساد والتغوير ، حيث يتعذر استنباطه ، { لقادرون } كما كنا قادرين على إنزاله ، وفي تنكير " ذهاب " : إيماء إلى كثرة طرقه ، ومبالغة في الإيعاد به ، ولذلك كان أبلغ من قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] . ثم ذكر نتائجه ، فقال : { فأنشأنا لكم به } أي : بذلك الماء { جنات من نخيلِ وأعنابِ لكم فيها } أي : في الجنات ، { فواكهُ كثيرةٌ } تتفكهون بها سوى النخيل والأعناب ، { ومنها تأكلون } أي من الجنات تأكلون تغذياً ، وتفكهاً ، أو تُرزقون وتحصِّلون معايشكم ، من قولهم : فلان يأكل من حرفته ، وهذه الجنة وجوه أرزاقكم منها ترزقون وتتمعشون ، ويجوز أن يكون الضميران للنخيل والأعناب ، أي : لكم في ثمرتها أنواع من الفواكه ، الرطب والعنب ، والتمر والزبيب ، والعصير والدِّبْسُ ، وغير ذلك وطعاماً تأكلونه . { و } أنبتنا به { شجرةً } هي الزيتون { تخرج من طُور سَيْناء } ، وهو جبل موسى عليه السلام بين مصر وأيلة ، وقيل : بفلسطين ، ويقال : فيه طور سنين ، فإمَّا أن يكون الطور اسم الجبل ، وسيناء اسم البقعة أضيف إليها ، أو المركب منهما عَلَمٌ له ، كامرئ القيس ، وتخصيصها بالخروج منه ، مع خروجها من سائر البقع ، إما لتعظيمها ، أو لأنه المنشأ الأصلي لها لأن أصل الزيتون من الشام ، وأول ما نبت في الطور ، ومنه نُقل إلى سائر البلاد ، { تَنْبُتُ بالدُّهن } أي : متلبسة بالدهن ، أي : ما يدهن به ، وهو الزيت ، { وصِبْغِ للآكلين } أي : إدام لهم ، قال مقاتل : جعل الله في هذه إداماً ودُهناً ، فالإدام : الزيتون ، والدهن : الزيت . وقيل : هي اول شجرة تنبت بعد الطوفان ، وخص هذه الأنواع الثلاثة لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأنفعها . { وإنَّ لكم في الأنعام } ، جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، { لَعِبْرَةً } تعتبرون بها ، وتستدلون بأحوالها على عظم قدرة الله تعالى ، وسابغ نعمته ، وتشكرونه عليه ، { نُسقيكم مما في بطونها } من الألبان سائغة للشاربين ، أو مما استقر في بطونها من العلَف فإنَّ اللبن يتكون منه ، { ولكم فيها منافعُ كثيرةٌ } ، سوى الألبان ، وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار . { ومنها تأكلون } أي : من لحومها ، { وعليها } أي : على الأنعام في البر ، { وعلى الفُلك } في البحر { تُحملون } في أسفاركم ومتاجركم ، والمراد بالأنعام في الحمل الإبل لأنها هي المحمول عليها في البر ، فهي سفائن العرب ، كما قال ذو الرمة : @ سَفيِنَةُ بَرِّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا @@ يريد ناقته . والله تعالى أعلم . الإشارة : ولقد خلقنا فوق قلوبكم سبعة حجب ، فمن خَرقَها أفضى إلى فضاء شهود ذاتنا وأنوار صفاتنا ، وهي حجاب المعاصي والذنوب ، وحجاب النقائص والعيوب ، وحجاب الغفلات ، وحجاب العوائد والشهوات ، وحجاب الوقوف مع حلاوة المعاملات ، وحجاب الوقوف مع الكرامات والمقامات ، وحجاب حس الكائنات ، فمن خرق هذه الحجب بالتوبة والتزكية واليقظة والعفة والرياضة ، والأنس بالله والغيبة عما سواه ، ارتفعت عنه الحجب ، ووصل إلى المحبوب . قال الورتجبي : أوضح سبع طرائق لنا إلى أنوار صفاته السبعة . هـ . وقال القشيري : الحق - سبحانه - لا يستتر من رؤيته مُدْرَكٌ ، ولا تخفى عليه من مخلوقاته خافية ، وإنما الحُجُبُ على أبصارِ الخَلْق وبصائرهم ، والعادةُ جاريةٌ أنه لا يخلق لنا الإدراك لِمَا وراء الحُجُب ، ولذلك أدخِلَت الغفلةُ القلوبَ ، واستولى عليها الذهول ، سدَّت بصائرها ، وغيبت فهومها ، ففوقها حجب ظاهِرة وباطنة ففي الظاهر : السموات حجبٌ تحول بيننا وبين المنازل العالية وعلى القلوب أغشية وأغطية ، كالشهوة والأمنية ، والإرادات الشاغلة والغفلة المتراكمة . ثم ذكر أن طرائق المريدين الفَتْرَة ، وطرائق الزاهدين ترك عُروق الرغبة . قال : وأما العارفون فربما تظلهم في بعض أحيانهم وقفةٌ في تضاعيف سيرهم إلى ساحات الحقائق ، فيصيرون موقوفين ريثما يتفضّلُ الحقُّ - سبحانه - عليهم بكفاية ذلك ، فيجدون نفاذاً ، ويدفع عنهم ما عاقهم من الطرائق ، وفي جميع ذلك فالحق - سبحانه - غير تاركٍ للعبد ولا غافلٍ عن الخلق . هـ . وقوله : { وما كنا عن الخلق غافلين } أي : وما كنا غافلين عن إرسال من يخرجهم من تلك الحجب القهرية ، بل بعثنا الرسل ، وفي أثرهم العارفين الربانيين ، يُخرجون من تعلق بهم من تلك الطرائق ، ويوصلونهم إلى بحر الحقائق . وأنزلنا من سماء الغيوب ماء العلم اللدني ، فأسكناه في أرض النفوس والقلوب ، بقدر ما سبق لكل قلب منيب ، وإناعلى ذهاب به من القلوب والصدور لقادرون . ولذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، فأنشأنا بذلك العلم في قلوب العارفين جنات المعارف من نخيل الأذواق والوجدان ، وأعناب خمرة العيان ، لكم فيها فواكه كثيرة ، أي : تمتع كثير بلذة الشهود ، ومنها تتقوت أرواحكم وأسراركم ، وشجرة المعرفة تخرج من القلوب الصافية ، التي هي محل المناجاة ، كطور موسى ، أي : تنبت فيها ويخرج أغصانها إلى ظاهر الجوارح ، تنبت في القلب بدهن الذوق والوجد ، وصبغ للآكلين ، أي : المريدين الآكلين من تلك الشجرة ، فتصبغ قلوبهم بالمعرفة واليقين . وقوله تعالى : { وإن لكم في الأنعام لعبرة } ، قال القشيري : الإشارة فيه : أنّ الكدوراتِ الناجمةَ المتراكمةَ لا عِبْرَةَ بها ولا مبالاة ، فإنَّ اللَّبنَ الخالص السائغَ يخرجُ من أخلاف الإبل والأنعام ، من بين ما ينطوي حواياها عليها من الوحشة ، ولكنه صافٍ لم يؤثر فيها بُحكم الجِوار ، والصفا يوجد أكثره في عين الكُدروة إذ الحقيقة لا يتعلق بها حق ولا باطل . ومَنْ أَشرف على سِرِّ التوحيد تحقَّقَ بأنَّ ظهور جميع الحدثان من التقدير ، فتسْقُط عنه كلفة التمييز فالأسرارُ عند ذلك تصفو ، والوقت لصاحبه لا يجفو ، ولكم فيها منافع لازمةٌ لكم ، ومتعدية منكم إلى كلِّ متصلٍ بكم . انتهى على لحن فيه ، فتأمله . ولما ذكرهم بالنعم ذكر من قابلها بالكفران فهلك