Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 23-30)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : ذكر في الحاشية وجوهاً من المناسبة ، فقال : لمّا استطرد ذكر الفلك ناسب ذكر نوح إثره ، لقوله : اصنع الفلك ، وأيضاً : هو أبو البشر الثاني ، فَذُكِرَ كما ذكر أولاً آدم ، في ذكر خلق الإنسان ، وأيضاً في ذكر نجاة المؤمنين وفلاحهم ، فناسب صدر السورة ، وهلاك الكافر وهو ضد المؤمن ، كما صرح بذلك في قوله في آخرها : إنه لا يفلح الكافرون ، وفي النجاة في الفلك مناسبة للنعم المقررة قبل ذكره . هـ . وإن كنا لمبتلين : " إنْ " : مخففة ، واسمها : ضمير الشأن ، واللام فارقة . يقول الحق جل جلاله : { ولقد أرسلنا } : وتالله لقد أرسلنا { نوحاً إلى قومه } ، وقد مرّ في الأعراف نسبه وكيفية بعثته ، { فقال } لقومه حين أُرسل إليهم ، متعطفاً عليهم ، ومستميلاً لهم إلى الحق : { يا قوم اعبدوا الله } وحده إذ العبادة مع الإشراك لا عبرة بها ، فلذلك لم يقيدها هنا ، وقيدها في هود ، بقوله : { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّه } [ هود : 26 ] { ما لكم من إلهٍ غيرهُ } أي : ما لكم من الوجود إله يستحق أن يُعبد غيره ، فالرفع على المحل ، والجر على اللفظ . { أفلا تتقون } أفلا تخافون عقوبة الله ، الذي هو ربكم وخالقكم ، إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء ، أو : أفلا تخافون عذابه الذي يستوجبه ما أنتم عليه ، كما يُفصح عنه قوله تعالى : { إِنِّىِۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 59 ] . { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } أي : أشرافهم لعوامهم : { ما هذا إلا بشرٌ مثلكُم } في الجنس والوصف ، يأكل ويشرب مثلكم ، من غير فرق بينكم وبينه ، { يُريد أن يتفضَّل عليكم } أي : يطلب الفضل عليكم ، ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم ، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية والخضوع للحَجَر ، ولم يرضوا بنبوة البشر . ثم قالوا : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } أي : لو شاء الله إرسال الرسل لأرسل رسلاً من الملائكة . وإنما قال : لأنزل ولم يقل : لأرسل لأنَّ إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال ، فمفعول المشيئة مطلق الإنزال ، أي : لو شاء ربنا إنزال شيء من الوحي لأنزل ملائكة يرسلهم إلينا ، { ما سمعنا بهذا } أي بمثل هذا الكلام ، الذي هو الأمر بعبادة الله وحده ، وترك عبادة ما سواه ، أو : ما سمعنا بأنَّ البشر يكون رسولاً ، أو بمثل نوح عليه السلام في دعوى النبوة ، { في آبائنا الأولين } أي : الماضين قبل بعثة نوح عليه السلام ، وإنما قالوا ذلك إما من فرط عنادهم ، أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة ، وقيل : معناه : ما سمعنا به أنه نبي ، { إنْ هو } أي : ما هو { إلا رجل به جِنَّةٌ } أي جنون ، أو جن يخبلونه ، ولذلك يقول ما يقول : { فتربصوا به حتى حين } أي : انتظروا واصبروا إلى زمان حتى ينجلي أمره ، فإن أفاق من جنونه ، وإلا قتلتموه . { قال ربّ انصرني بما كذَّبونِ } ، لمَّا أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم ، فالجملة استئناف نشأ عن سؤال ، كأنه قيل : فماذا قال عليه السلام ، بعدما سمع هذه الأباطيل ؟ فقيل : قال ، لما رآهم قد أصروا على الكفر والتكذيب ، وتمادوا في الغواية والضلال ، حتى أيس من إيمانهم بالكلية وقد أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن : { رب انصرني } بإهلاكهم بالمرة ، فهو حكاية إجمالية لقوله : { لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . { بما كذَّبون } بسبب تكذيبهم إياي ، أو بدل تكذيبهم ، كقولك : هذا بذاك ، أي : بدل ذاك والمعنى : أبدلني من غم تكذيبهم سلَوة النصر عليهم . { فأوحينا إليه } أجبنا دعاءه وأوحينا إليه عند ذلك { أَنِ اصنعِ الفُلكَ بأعيننا } أي : ملتبساً بحفظنا وكلاءتنا ، كأنَّ معك حُفاظنا يكلؤونك بأعينهم ، لئلا يتعرض لك أحد ، يفسد عملك ، ومنه قولهم : عليه من الله عيون كالئة ، { ووَحْينا } أي : أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها . رُوي : أنه أوحى إليه أن يصنعها مثل جُؤْجؤ الطائر . وفي القاموس جُؤجؤ - كَهُدْهُد - : الصدرُ . { فإذا جاء أَمْرُنا } أي : عذابنا بأمرنا ، { وفار التنُّور } أي : فار الماء من تنور الخبز ، فخرج سبب الغرق من موضع الحرق ليكون أبلغ في الإنذار والإعتبار . رُوي أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأهلك السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته ، فركب ، وكان التنور تنورَ آدم ، فصار إلى نوح ، وكان من حجارة . واختلف في مكانه ، فقيل : في مسجد الكوفة عن يمين الداخل ، وقيل : بالشام ، وقيل : بالهند . فإذا فار { فاسْلُكْ فيها } : فَأَدْخِلْ في السفينة { من كل زوجين اثنين } من كل أمة اثنين مزدوجين ، ذكر وأنثى . قال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض ، فأما البق والدود والزباب ، فلم يحمل منه شيئاً ، وإنما يخرج من الطير . هـ . { و } احمل في السفينة { أهلَك } نساءك وأولادك ، أو من آمن معك ، { إلا من سبق عليه القولُ منهم } أي : القول من الله بهلاكه ، وهو ابنه وإحدى زوجتيه ، وإنما جيء بعلى لكون السابق ضاراً ، كما جيء باللام في قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } [ الأنبياء : 101 ] ، { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الصافات : 171 ] لكونه نافعاً ، ونحوه : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] ، { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } أي : لا تسألني نجاة الذين كفروا ، إنهم مقضى عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك والإصرار ، ومَنْ هذا شأنه لا يُشفع له ، وكأنه عليه السلام ندم على الدعاء عليهم ، حين تحقق هلاكهم ، فهَمَّ بمراجعة الحق فيهم شفقة ورحمة ، فَنُهي عن ذلك . ثم قال له : { فإِذا استويتَ أنت ومن معك على الفُلْك } فإذا تمكنتم عليها راكبين { فقل الحمد لله الذي نجَّانا من القوم الظالمين } ، أُمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم على طريق : { فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ] . ولم يقل : فقولوا ، وإن كان أهله ومن معه قد استووا معه لأنه نبيهم وإمامهم ، فكان قوله قولَهم ، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة . { وقل ربِّ أنزلني } في السفينة ، أو منها { مُنْزَلاً مباركاً } أي : إنزالاً مباركاً ، أو موضع إنزال يستتبع خيراً كثيراً ، { وأنت خير المُنزِلين } خير من ينزل في كل خير ، أُمر عليه السلام بأن يشفع دعاءه بما يطابقه من ثنائه عليه تعالى ، توسلاً به إلى إجابة دعائه ، فالبركة في السفينة : النجاة فيها ، وبعد الخروج منها : كثرة النسل وتتابع الخيرات ، { إِنَّ في ذلك } فيما فعل بنوح وقومه { لآياتِ } : لعبراً ومواعظ ، { وإن كنا } أي : وإن الشأن والقصة كنا { لمبتلين } : مُصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو : مختبرين بهذه الآيات عبادنا ، لننظر من يعتبر ويذكر ، كقوله : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 15 ] . والله تعالى أعلم . الإشارة : تقدمت إشارة هذه القصة مراراً بتكررها ، وفيها تسلية لمن أوذي من الأولياء بقول قبيح أو فعل ذميم . وقال القشيري في قوله : { وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً } : الإنزال المبارك : أن تكون بالله ولله على شهود الله ، من غير غفلة عن الله ، ولا مخالفة لأمر الله . هـ . ثمَّ ذكر قصة هودٍِ أو صالح