Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 51-56)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : وإن هذه : مَن كسره استأنف ، ومَن فتحه حذف اللام ، أي : فاتقون لأنَّ هذه ، أو معطوف على ما قبله : بما تعملون عليم ، وبأن هذه ، أو بتقدير : واعلموا أن هذه . وزُبُراً : حال من : " أَمْرهم " ، أو من " واو " تقطعوا ، و نُسارع : خبر " أن " ، و " ما " : موصولة . يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الرسل كُلوا من الطيبات } ، هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة ، وإنما المعنى : الإعلام بأنَّ كل رسول في زمانه نُودي بذلك ، ووصي به للإيذان بأن إباحة الطيبات شرعٌ قديم ، جرى عليه جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وَوُصّوا به ، أي : وقلنا لكل رسول : كُلْ من الطيبات واعمل صالحاً . فعبَّر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع للإيجاز ، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات ما لا يخفى . قاله أبو السعود . وقيل : خطاب لعيسى عليه السلام لاتصال الآية به ، وكان يأكل من غزل أمه ، وهو من أطيب الطيبات ، وقيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لفضله وقيامه مقام الكل ، وكان يأكل من الغنائم ، وما رزقه الله من غير اختيار على الله ، والجمع : للتعظيم فيهما ، والطيبات : ما يُستطاب ويُستلذ من مباحات المآكل والفواكه ، حسبما يُنبىء عنه سياق النظم الكريم . { واعملوا } عملاً { صالحاً } ، فإنه المقصود منكم شكراً لما أُسدي إليكم ، ولا تشتغلوا بالنعم عن طاعة المنعم وشهوده ، { إني بما تعملون } من الأعمال الظاهرة والباطنة ، { عليم } ، فأجازيكم عليه ، وفيه تهديد للمذكورين ، فما بالك بغيرهم ممن ألهته النعم عن شهود المنعم وشكره ؟ ! { وإن هذه أمتكم } أي : ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها { أمةً واحدة } أي : ملة واحدة ، متحدة في أصول الشرائع ، التي لا تُبدل بتبدل الأعصار ، وهو التوحيد وما يتبعه من أصول العقائد . { وأنا ربكم } من غير أن يكون لي شريك في الربوبية ، { فاتقون } : فخافوا عتابي في مخالفتكم أمري ، أو في شق العصا ، والمخالفة بالإخلال بمواجب ما ذكر من اختصاص الربوبية بي . والخطاب للرسل والأمم جميعاً ، على أن الأمر في حق الرسل للتهييج ، وفي حق الأمم للتحذير . قيل : وجاء هنا : " فاتقون " ، الذي هو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء : { فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] لأن هذه جاءت عقب إهلاك طوائف كثيرين ، وفي الأنبياء ، وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها ، فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام ، في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته . ثم قال تعالى : { فتقطَّعوا أمرهم } أي : فتفرقوا في أمر دينهم مع اتحاده ، وجعلوه قطعاً متفرقة ، وأدياناً مختلفة ، { بينهم زُبراً } أي : قطعاً - جمع زَبور ، بمعنى الفرقة ، ويؤيده قراءة من قرأ : زُبَراً بفتح الباء ، جمع زُبْرة كغُرْفة ، أي : قطعاً مختلفة ، كلٌّ ينتحل كتاباً ، وقيل : جمع زَبور ، بمعنى كتاب ، أي : كل فريق يزعم أن له كتاباً يتمسك به . وعن الحسن : قطعوا كتاب الله قطعاً وحرَّفوه ، والأول أقرب ، أي : تفرقوا في أصل الدين فرقاً ، وتحزبوا أحزاباً ، { كل حزب } من أولئك المتحزبين { بما لديهم } من الدين الذي اختاروه ، أو من الهوى والرأي ، { فَرِحُون } : مُعجبُون ، يعتقدون أنه الحق . { فذَرهم في غمرتهم } في جهالتهم وغفلتهم ، شبَّه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها ، سابحون في بحر الجهالة ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنهم مطبوع على قلوبهم ، أي : اتركهم على حالهم { حتى حين } : حتى نأمرك فيهم بما شئتُ من الجهاد أو غيره ، أو : إلى أن يُقتلوا أو يموتوا على الكفر ، أو : إلى وقت حلول العذاب بهم . فهو تهديد وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهى عن استعجال عذابهم ، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل . { أيحسبون أنما نُمِدُّهم به } أي : نعطيهم إياه ونجعله مدداً لهم ، { من مالٍ وبنين } " من " : بيان ، أي : أيظنون أن الذي نمدهم به من الأموال والبنين ، { نُسارعُ لهم } بذلك { في الخيرات بل لا يشعرون } أنه استدراج ، قيل : استدراك لقوله : { أيحسبون } أي : بل هم أشباه البهائم ، لا شعور لهم حتى يتأملوا في ذلك ، هل هو استدراج أو مسارعة في الخيرات ؟ وحاصل المعنى : أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي ، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ، ومعاملة لهم بالثواب ، جزاء على حسن صنيعهم . وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح لأنهم يقولون : إن الله - تعالى - لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين ، وقد أخبر أن ذلك لا خير لهم فيه ولا صلاح ، والله تعالى أعلم . الإشارة : تناول الطيبات وما تشتهيه النفس من أنواع الملذوذات ، مباح في الشرع قديماً وحديثاً ، إن كان من وجه مباح وقارنه الشكر لأن الحق تعالى ما خلق ذلك إلا لعباده ليشكروه ويحمدوه ، ويتذكروا بذلك نعيم الجنان ، الذي لا يفنى ولا يزول ، وما هذا النعيم الدنيوي إلا أنموذج من نعيم الآخرة ، قال تعالى : { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] . هذا باعتبار عامة المسلمين ، وأما الخاصة من العُبَّاد والزهاد والمريدين السائرين ، فهم يجتنبون ما تجنح إليه النفس ، ويتعلق به القلب خوفاً من الإشتغال بذلك عن العبادة أو السير لأن القلب إذا توجه لأمر أعرض عن الآخر ، فإذا توجه إلى طلب الشهوات أعرض عن الله ، وتَفَتَّر عن السير ، وتَكَبَّل عن النهوض إلى الحضرة . ولذلك قال في الحِكَم : " كيف يشرق قلب : صُورُ الأكوان منطبعة في مرآته ؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مُكَبَّل بشهواته ؟ أم كيف يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته ؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته ؟ " وقال بعضهم : لَدغُ الزنابير على الأجسام المَقرحة ، أيسر من لدغ الشهوات على القلوب المتوجهة . هـ . وأما خاصة الخاصة وهم العارفون المتمكنون ، فهم مع مولاهم ، يأخذون من يده ما يعطيهم لأن قلوبهم قد استغرقتها الأنوار ، فلم يبق فيها متسع للأغيار ، قد تهذبت نفوسهم ، واطمأنت بالله قلوبهم ، فلا تلتفت إلى غير مولاها . وبالله التوفيق . وقوله تعالى : { فتقطعوا أمرهم بينهم … } إلخ ، الاختلاف ، إن كان التوحيد وما يرجع إليه من أصول العقائد ، فهو مذموم ، وهو الذي نعاه الله على الكفرة المتحزبة ، وأمَّا إن كان في الفروع فهو مشروع ، كاختلاف الشرائع والمذاهب ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : " اختلاف أمتي رحمة " ، وقال بعض الصوفية : ما زالت الصوفية بخير ما تنافروا ، فإن توافقوا فلا خير فيهم . هـ . والمراد بالتنافر - في حقهم - التناصح ، وإنكار بعضهم على بعض إذا رأى من أحد عيباً ، فإن سكتوا عن بعضهم ، وتوافقوا على مساوئ بعضهم بعضاً ، فلا خير فيهم ، وأما قلوبهم فهي متوافقة مؤتلفة . وقوله تعالى : { كل حزب بما لديهم فرحون } ، أما أهل الحق فهم فرحون لسلوكهم على المنهاج المستقيم ، المُفضي إلى رضوان الله ورحمته ، وأما أهل الباطل فزين لهم الشيطان أعمالهم ليتمكنوا من التقرر عليه حتى ينفذ مراد الله فيهم ، ولو تحققوا أنهم على باطل لم يمكن قرارهم عليه ، فتبطل حكمته وقهريته ، وكل من أقامه الحق - تعالى - في حرفة أو خُطة ، زينها الله - تعالى - في قلبه حتى يقوم بها ، وكذلك أهل الأسباب من أرباب الدليل والبرهان ، مع أهل التجريد من أهل الشهود والعيان ، لو علموا بمقام أهل العيان ما أقاموا في الأسباب ، ولتجردوا كلهم ، فتبطل الحكمة الإلهية . وكان إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه يقول : لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف : فسبحان من قرَّب قوماً وأبعد قوما ، { وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا } . والله تعالى أعلم وأحكم . ثمَّ ذكر أهل التقرب إثر بيان أهل البعد