Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 57-62)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال في الحاشية : لمّا ذكر تعالى غفلةَ الكفار ووعيدهم ، عقَّب ذلك بوصف المؤمنين بضد ذلك ويقينهم بالرُّجْعَى ، وإشفاقهم من جلال الحق وقهره . هـ . يقول الحق جل جلاله : { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } أي : من عذابه خائفون حذرون ، { والذين هم بآيات ربهم } المنصوبة والمُنَزَّلة ، يؤمنون بتصديق مدلولها ، وبكتب الله كلها ، لا يُفرقون بين كتبه ، كالذين تقطعوا أمرهم بينهم - وهم أهل الكتاب وغيرهم ، { والذين هم بربهم لا يشركون } شركاً جلياً ولا خفياً ، بخلاف مشركي العرب والعجم . { والذين يُؤتون ما آتَوْا } أي : يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات . وقرئ : يأَتُونَ مَا أَتَواْ بالقصر ، أي : يفعلون من الطاعات ، { وقلوبهم وَجِلةٌ } : خائفة ألاَّ تُقبل منهم لتقصيرهم بأن لا يقع على الوجه اللائق ، فيُؤخذوا به ويُحرموا ثوابه لأنهم { إلى ربهم راجعون } فيعاتبهم ، أو من مرجعهم إليه ، وهو يعلم ما يحيق عليهم ، والمصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر ، في حَيِّزِ صِلاتِهَا من الأوصاف الأربعة ، لا عن طوائف ، كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة ، كأنه قيل : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، وبآيات ربهم يؤمنون … إلخ . وإنما كرر الموصول إيذاناً باستقلال كل واحد من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حِيالها ، وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها ، وخبر " إنّ " : { أولئك يسارعون } ، أشار إليهم بالجمع اعتبار اتصافهم بتلك النعوت ، مع أنَّ الموصول واقع على الجمع . ومعنى البُعد للإشعار ببُعد رُتبتهم في الفضل ، أي : أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة يسرعون { في الخيرات } أي : يرغبون في الطاعات أشد الرغبة ، فيبادرون إليها . أويسارعون في نيل الخيرات العاجلة والآجلة الموعودة على الأعمال الصالحات كما في قوله تعالى : { فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ } [ آل عمران : 148 ] ، وقوله : { وَآتَيْنَاهُ فِى ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ النحل : 122 ] ، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم ، غير أنه غيّر الأسلوب ، حيث لم يقل : أولئك نسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماءاً إلى كمال استحقاقهم نيل الخيرات لمحاسن الأعمال . وإيثار كلمة " في " ، عن كلمة " إلى " إيذانا بأنهم مُتَقلِّبون في فنون الخيرات ، لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها ، كما في قوله تعالى : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 133 ] الآية . { وهم لهم } أي : لأجل نيل تلك الخيرات ، { سابقون } الناس إلى الطاعات ، أو : وهم إياها سابقون ، واللام زائدة لتقوية العامل ، كقوله : { وهم لها عاملون } أي : ينالونها قبل الآخرة ، فتُعجل لهم في الدنيا ، وعن ابن عباس : { هم لها سابقون } أي : سبقت لهم من الله السعادة ، فلذلك سارعوا في الخيرات . هـ . فهو إشارة إلى تيسير كلِّ لما خُلِق له ، وأنه يَسَّرهمُ القدرُ لما وصفهم به من الخير ، كما أن الكفار أُمدوا بما يدعو للغفلة والإعجاب ، مما هو استدراج ومكر من حيث لا يشعرون . قال تعالى : { ولا نُكلِف نفساً إلا وُسْعَها } أي : طاقتها ، فهو تحريض على تحصيل ما وُصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات ببيان سهولته ، وأنه غير خارج عن حد الوسع والطاقة ، أي : عادتنا جارية بأنْ لا نكلف نفساً من النفوس إلا ما في طاقتها ، فإن لم يبلغوا في فعل الطاعة مراتب السابقين ، فلا عليهم ، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم . { ولدينا كتابٌ } أي : صحائف الأعمال التي يرونها عند الحساب ، حسبما يُعرب عنه قوله : { ينطِق بالحق } ، كقوله : { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] أي : عندنا كتاب أثبت فيه أعمال كل أحد على ما هو عليه ، أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعاً ، وقوله : بالحق : يتعلق بينطق ، أي : يُظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ، أو يظهره للسامع ، فيظهر هناك جلائل أعمالهم ودقائقها ، ويرتب عليها أجزيتها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرٌ ، وقيل : المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، وهو مناسب لتفسير ابن عباس بسبق السعادة ، وقوله : { وهم لا يظلمون } ، بيان لفضله تعالى وعدله في الجزاء ، إثر بيان لطفه في التكليف وكتب الأعمال ، أي : لا يظلمون في الجزاء بنقص الثواب أو بزيادة عذاب ، بل يُجزون بقدر أعمالهم التي كُلّفوها ، ونطقت بها صحائف أعمالهم ، أو : لا يُظلمون بتكليف ما لا وسع فيه ، أو : لا ينقصون مما سبق لهم في اللوح المحفوظ شيئاً ، والله تعالى أعلم . الإشارة : ذكر في هذه الآية أربعة أوصاف من أوصاف المقربين ، أولها : الخوف والإشفاق من الطرد والإبعاد ، والثاني : الإيمان الذي لا يبقى معه شك ولا وَهْم ، بما تضمنته الآيات التنزيلية من الوعد والإيعاد ، والثالث : التوحيد الذي لا يبقى معه شرك جلي ولا خفي ، والرابع : السخاء والكرم ، مع رؤية التقصير فيما يعطي . فمن جمع هذه الخصال كان من السابقين في الخيرات ويُسارع لهم في تعجيل الخيرات ، وكل ذلك بقدر ما يطيق العبد ، مع بذل المجهود في فعل الخيرات . قال في الحاشية : والمسارعة إلى الخيرات إنما هو بقطع الشرور وأول الشرور : حب الدنيا لأنها مزرعة الشيطان ، فمن طلبها وعمرها فهو حراثه وعبده ، وشر من الشيطان من يُعين الشيطان على عمارة داره ، وما ذلك إلا أنه لم يهتم بأمر معاده ومنقلبه ، لما جرى عليه في السابقة من الحكم ، ولا كذلك من وصفه في الإشفاق من المؤمنين إجلالاً لربهم ، ورجوعاً لحكمه فيهم غيباً ، فلا يأمنون مكره بحال ، ولا يركنون إلى أعمال ، بل عمدتهم ربهم ورحمته في كل حال . والله أعلم . والحاصل : أنهم مع كونهم يخشون ربهم ويؤمنون بآياته ، ولا يشركون به شيئاً ، ويودون طاعته ، يخافون عدم قبوله لهم عند الرجوع إليه ، ولقائهم له لأنه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأحكامه لا تعلل ، ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده . هـ . قوله : " ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده " ، أي : لأنه قد يرتب ذلك على شروط أخفاها عنه ، ليدوم خوفه واضطراره ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، وليس خوف العارف من السابقة ولا من الخاتمة لأنه شغله استغراقه في الحق والغيبة فيه عن الشعور بالسابقة واللاحقة ، إنما خوفه من الإبعاد بعد التقريب ، أو الافتراق بعد الجمع ، وهذا أيضاً قبل التمكين ، وإلا فالكريم إذا أعطى لا يرجع . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر من اتصف بضد الأوصاف المتقدمة