Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 68-74)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : الهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أَفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار فلم يتدبروا القرآن ، و " أم " : منقطعة ، فيها معنى الإضراب والتوبيخ في الجميع . يقول الحق جل جلاله : { أَفَلَمْ يدّبروا القولَ } يتدبروا القرآن ليعرفوا ، بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول ، والإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة ، أنه الحق ، فيؤمنوا به ، ويُذعنوا لمن جاء به ، { أم جاءهم } بل أَجاءهم من الكتاب { ما لم يأتِ آباءهم الأولين } ، حتى استبعدوه واستبدعوه ، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال ، { أم لم يعرفوا رسولهم } أي : بل ألم يعرفوه - عليه الصلاة والسلام - بالأمانة والصدق ، وحسن الأخلاق ، وكمال العلم من غير تعلم ولا مدارسة ، وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء قبله ، بل عرفوه بذلك { فهم له منكِرون } بغياً وحسداً . { أم يقولون جِنَّة } جنون ، وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً ، وأثقبهم ذهناً ، وأتقنهم رأياً ، وأوفرهم رزانة ، ولقد شهد له بذلك كل من رآه من الأعداء والأحباب ، { بل جاءهم بالحق } أي : ليس الأمر كما زعموه في حق الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وما جاء به من القرآن ، بل جاءهم بالحق الأبلج والصراط المستقيم ، وبما خالف أهواءهم ، من التوحيد الخالص والدين القيم ، ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً ، فلذلك نسبوه إلى الجنون ، { وأكثرُهُم للحقِّ } من حيث هو حق ، لا لهذا بعينه ، فلذلك أظهر في موضع الإضمار ، { كارهون } لِمَا في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج ، وزاغوا عن الطريق الأبهج ، وفي التعبير بالأكثر دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به ، أنفةً واستنكافاً من توبيخ قومه ، أو لقلة فطنته وعدم تفكره ، كأبي طالب وأضرابه . قال ابو السعود : وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق ، مع اتفاق الكل على الكفر به ، مما لا يساعده المقام أصلاً . هـ . فحمل الأكثر على الكل . { ولو اتبع الحقُّ أهواءهم } بأن كان في الواقع آلهة شتى { لفسدتِ السمواتُ والأرضُ ومن فيهن } كما تقدم في قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، فالاتباع هنا مجاز ، أي : لو جاء الوحي على ما يشتهون لفسدت السموات ، فالحق هنا هو المذكور في قوله : { بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } ، والمعنى : لو كان ما كرهوه من الحق ، الذي من جملته ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، موافقاً لأهوائهم الباطلة لفسد نظام العالم ، وتخصيص العقلاء بالذكر حيث عبَّر بمن لأنَّ غيرهم تبع . { بل أتيناهم بذكْرهم } : بشرفهم ، وهو القرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم ، كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] لأن الرسول منهم ، والقرآن لغتهم ، أو بتذكيرهم ووعظهم ، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ، ويقولون : { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } [ الصافات : 168 ] ، { فهم عن ذِكْرِهم معرضون } أي : فهم ، بما فعلوا من النكوص ، عن فخرهم وشرفهم معرضون ، وهذا مما جُبِلَتْ عليه النفوس الأَمّارة الإعراض عما فيه خيرها ، والرغبة فيما فيه هلاكها ، إلا من عصم الله ، وفي إسناد الإتيان إلى نون العظمة ، بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ، ومن التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى . انظر أبا السعود . { أم تسألُهُم خَرْجاً } ، هذا انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم : { أم يقولون به جِنَّة } ، إلى التوبيخ بوجه آخر ، كأنه قال : أم يزعمون أنك تسألهم عن أداء الرسالة { خَرْجا } أي : جُعلاً ، فيتهمونك ، أو يثقل عليهم فلذلك لا يؤمنون ، { فخراجُ ربك خيرٌ } أي : رزقه في الدنيا ، وثوابه في الآخرة ، خير لك من ذلك لدوامه وكثرته ، أي : لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك الله في الدنيا والعقبى خير لك من ذلك وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، من تعليل الحكم وتشريفه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى . والخَرْج والخراج واحد ، وهو : الأجر المأخوذ على العمل ، ويطلق على الغلة والضريبة كخراج العبد والأرض ، وقال النضر بن شُميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخراج والخَرْج ، فقال : الخراج ما لزمك ، والخرج مَا تَبَرَّعْتَ به ، وقيل : الخرج أخص من الخراج لأنَّ الخراج يطلق على كل ما يستفيده المرء من غلة ، أو أجرة ، أو زكاة ، والخرج خاص بالأجرة ، وفي الخراج إشعار بالكثرة ، فلذلك عبَّر به في جانبه - تعالى - والمعنى : أم تسألهم ، على هدايتك لهم ، قليلاً من عطاء الخلق ، فالكثير من عطاء الخالق خير ، { وهو خير الرازقين } : أفضل المعطين . { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم } تشهد العقول السليمة باستقامته ، ليس فيه شائبة اعوجاج ، توجب اتهامهم لك بوجه من الوجوه ، ولقد ألزمهم الله - تعالى - الحجة ، وأزاح عِللهم في هذه الآيات ، حيث حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام من قوله : { أم لم يعرفوا رسولهم … } إلى هنا ، وبيَّن انتفاءها ، ولم يبق إلا كراهة الحق وعدم الفطنة أو العناد أو المكابرة ، { وإنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط } عن طريق الحق { لناكِبُون } أي : لعَادلون عن هذا الصراط المذكور ، وهو الصراط المستقيم ، وصفهم بعدم الإيمان بالآخرة ، تشنيعاً لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا ، وزعمهم ألاَّ حياة إلاَّ حياة الدنيا ، وإشعاراً بعِلّيّة الحُكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أمور الدعاوي إلى طلب الحق وسلوك سبيله . والله تعالى أعلم . الإشارة : كل من أنكر على أهل الخصوصية ، ولم يعرف خصوصيتهم فسببه ثلاثة أمور : إما أنه لم يصحبهم ولم يتدبر ما يقولون ، ولا ما يأمرون به وينهون عنه ، وإنما يرميهم رجماً بالغيب ، وإما أنه حسدهم وخاف على جاهه أن يتنقل لغيره ، وإما أنهم أتوا بخرق عوائد النفوس التي لم تكن لآبائهم الأولين ، فقالوا : { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمِ مُّقْتَدُونَ } ، وإنما جاءهم بالحق ، وأكثرهم للحق كارهون ، وكيف تُخرق للعبد العوائد ، وهو لم يخرق من نفسه العوائد ؟ . { وَلَوِ اْتَّبَعَ اْلحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ } ، بأن كانت التربية على طريق العوائد ، والاستمرار معها لفسد النظام ، ولبقي الكون كله ظلمة لجميع الأنام إذ لا يمكن أن يصير الكون نوراً ، بظهور الحق فيه ، إلا بخرق عوائد النفوس ، وإخراجها عن هواها ، فحينئذٍ تخرق له ظلمة الكَون ، فيفضي إلى شهود المكَوّن ، بل أتيناهم بذكرهم أي : بشرفهم ، بمعرفة الحق على نعت العيان ، وهم عن ذكرهم معرضون حيث انهمكوا في عوائدهم ، ولم يقبلوا من يخرجهم عنها ويعرفهم بالله لله ، من غير خراج ولا طمع . قال تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : { أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } . قال القشيري : أي : إنَّكَ لا تُطالبهم على تبليغ الرسالة بأجرة ، ولا بإعطاءِ عِوَض ، حتى تكون في موضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة ، أم لعلك تريد أن يَعْقدُوا لك الرئاسة ، ثم قال : والذي لَكَ من الله - سبحانه - من جزيل الثواب ، وحسن المآب ، يُغْنيك عن التصدي لنيلِ ما يكون في حصوله منهم مطمع . هذه كانت سُنَّة الأنبياء والمرسلين - عليهم السلام - عملوا لله فلم يطلبوا عليه أجراً من غير الله ، والعلماء ورثة الأنبياء في التنزه من التَّدَنُّس بالأطماع ، والأكل بالدين ، فإنه ربا مُضِرٌّ بالإيمان ، إن كان العملُ لله فالأجر مُنتظرٌ من الله ، وهو موعودٌ مِن قبل الله . هـ . وراجع ما تقدم في سورة هود فإنه أوفى من هذا . وقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، وهو طريق الوصول إلى شهود الذات الأقدس ، من طريق التربية ، التي هي مخالفة الهوى والخروج عن العوائد . وقال القشيري : الصراطُ المستقيمُ : هو شهودُ الحقِّ بنعت الإنفراد في جميع الأشياء ، والإيجاف ، والاستسلام لقضايا الإلزام ، بمواطأة القلب من غير استكراها الحُكمْ . هـ . وقال الورتجبي عن بعضهم : لولا أن الله - تعالى - أمر بمخالفة النفوس ومباينتها ، لاتَّبع الخلق أهواءهم في شهوات النفوس ، ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية ، وتركوا أوامر الله ، وأعرضوا عن طاعته ، ولزموا المخالفة ، ألا ترى الله يقول : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن } . ثم بيَّن سبحانه أن حبيبه - عليه الصلاة والسلام - يدعوهم إلى تلك المشاهدة بقوله : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : مما أوضحه أنوار جماله وشاهَدْتَه ، وهي طريق معرفته في قلوب الصِّدّيقين للأرواح القدسية . وتلك الطريقة منتهاها المحبة ، وبدايتها الأسوة والمتابعة لقوله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] . هـ . قلت : المراد بالمحبة محبة الحق لعبده بدليل الآية التي ذكر . وقال ابن عطاء : إنك لتحملهم على مسالك الوصول ، وليس كل أحد يصلح لذلك السلوك ، ولا يوفق له إلا أهل الإستقامة ، وهم الذين استقاموا مع الله ولم يطلبوا معه سواه ، ولم يروا لأنفسهم درجة ولا مقاماً . هـ . قوله تعالى : { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي : لا يؤمنون بالحياة الآخرة ، وهي حياة النفوس بالمعرفة العيانية ، بعد موتها بالجهل والوقوف مع الحس والعوائد ، ممن لا يصدق بهذه الحياة ، وأنكر وجود من يوصل إليها عن طريق الحق الموصلة إليه ، لناكبون ، فهم في الحيرة والتلف تائهون ، عائذاً بالله من ذلك . ثمَّ ذكر انهما كهم في الغفلة لسبق القضاء عليهم .